مصطفى بيومي يكتب: شادية.. "النبش في الذاكرة.. شبه سيرة ذاتية" - ادراك

بحث في الموقع

https://idrak4.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

الاثنين، 6 نوفمبر 2017

مصطفى بيومي يكتب: شادية.. "النبش في الذاكرة.. شبه سيرة ذاتية"






مصطفى بيومي


أظنها الفنانة الأعظم والأفضل تعبيرًا عن عمق التحولات الاجتماعية والثقافية التي تمر بها مصر، من منتصف الأربعينيات إلى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين. هي أسطورة على طريقتها الخاصة وصانعة ماهرة للبهجة والفرحة والمرح والنشوة. من "الشقاوة" والبساطة والانطلاق العفوي الذي لا يعرف القيود، إلى معانقة القوة والتسلح بالإرادة الفولاذية، وصولاً إلى محطة التراجع والمراجعة والتقوقع وإدارة الظهر للحياة.
في رحلتها مع السينما، التي تمتد لأكثر من ثلث قرن، تقدم شادية ما يزيد على مئة فيلم، والأغلب الأعم من أفلام المرحلة الأولى مغلف بالتسلية والأدوار المفرطة في الخفة والبساطة، أما الأفلام الجادة التي تحتاج ممثلة قديرة متمكنة فلا يزيد عددها على أصابع اليدين، ولعل بدايتها الحقيقية في الأداء المتقن مع "المرأة المجهولة"، قرب نهاية الخمسينيات، ثم مجموعة الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ في الستينيات: "اللص والكلاب"، "زقاق المدق"، "الطريق"، "ميرامار". في المرحلة نفسها، تتألق مع صلاح ذو الفقار في "أغلى من حياتي" و"مراتي مدير عام" و"كرامة زوجتي" و"عفريت مراتي"، أما الدور الأعظم والأعمق في رأيي فهو شخصية فؤادة في "شيء من الخوف"، مع المخرج الكبير ذي الرؤية حسين كمال، والممثل الفذ العملاق محمود مرسي، والمعالجة الواعية لعبد الرحمن الأبنودي، ولا شأن لهذا كله برواية ثروت أباظة.
في فيلمها الاستثنائي الفريد هذا، وهي على مشارف الأربعين، تجمع شادية بين بقايا الشباب وعمق اكتمال الأنوثة الناضجة. ليست بالفتاة الخفيفة التي ترقص وتغني وتضحك ولا تحمل للدنيا همًا، وليست أيضًا بالمرأة الـ"بين بين" كما في أفلامها السابقة بعد نهاية الشباب، بل هي مشروع الوطن الذي يتخذ مسارًا مختلفًا عما كان سائدًا من قبل. هي فلاحة خالصة للمرة الأولى، بعد المرور على أدوار الخادمة والسيدة الشعبية والمرأة العاملة، فضلاً عن العاهرة المستهترة. تمثل شادية بكل ذرة في جسدها وروحها، وتعي أبعاد الشخصية وما ترمز إليه، وتجمع في انسجام خلاب يخلو من النشاز بين مشاعر العاشقة التي تكتم حبها، والقوية التي تنتصر للمبدأ والفكرة، وما ترى أنه الحق الذي لا يقبل التنازل.
لا تروقني تجربة شادية المسرحية الوحيدة في "ريا وسكينة"، ذلك أنها ليست ممثلة مسرحية راسخة القدمين، ولا تجارب لها أو خبرات في هذه الساحة. إيقاعها في الأداء بطيء متعثر يتوافق مع أعوامها الخمسين، وحضورها باهت مقارنة بعبد المنعم مدبولي وسهير البابلي وأحمد بدير. قد تكون كوميدية بارعة في بعض أدوارها السينمائية، لكن الأمر فوق خشبة المسرح مختلف عن التواصل مع الكاميرا.
لابد أن يتسع تاريخ الفن السينمائي والإذاعي لصفحات غير قليلة عن شادية، لكن كتاب الإبداع الغنائي يتضمن بالضرورة فصولاً كاملة عنها. لا تقتصر الأهمية على الكم، حيث مئات الأغنيات المتنوعة الناجحة في مراحل حياتها من الصبا إلى الكهولة، لكنها تقترن أيضًا بالشخصية المختلفة والصوت الذي لا يشبه أصوات الآخرين، ولا تشبهه الأصوات الأخرى.
في طفولتي المبكرة، تعلقت بأغنيات شادية خفيفة الظل ميسورة الفهم: "آلو آلو"، "خمسة في ستة"، مين قالك تسكن في حارتنا"، "سوق على مهلك سوق"، ثم وقعت أسير غرامها مع الروائع التي أدمن الاستماع إليها: "أسمراني اللون"، "خلاص مسافر"، "غاب القمر يا ابن عمي"، "قولوا لعين الشمس"؛ أما الأغنية الأقرب إلى قلبي فإنها تنتمي إلى مرحلة سابقة: "شباكنا ستايره حرير". الشاعر الذي أحبه مرسي جميل عزيز، والملحن الجميل محمد الموجي. ولعي لا يرتبط بروعة الأغنية فحسب، بل أيضًا لأنني أكن اهتمامًا خاصًا بالستائر وما ترمز وتشير إليه. على الصعيد الشخصي، أحب الستائر المسدلة التي تصنع ذلك الجو المعتم الحنون الذي أعشقه، وبخاصة عندم يكون اليوم شتويًا باردًا، ورائحة البخور حاضرة ساطعة.
صوت شادية في الغناء للحب، الذي لا يبتعد كثيرًا عن الجنس، يصنع حالة فريدة من الخصوبة المتوهجة. انتظار المحروم للفرح الذي يطول غيابه، تطلع الجائع المعذب لوجبة مشبعة، الاختلاط الخلاب بين الرومانسي والحسي.
الوطن عند شادية حالة حب، ومثل العظيم الهامس محمد فوزي، لا تميل صاحبة الصوت الدافئ الحنون إلى الصراخ المتشنج. يكفي أن تقول، هكذا ببساطة المحبين الصادقين ممن تمتلئ بهم الشوارع، إن بلادنا هي الأجمل، ليس لأنها الأجمل، بل لأنها بلادنا. شعب مصر هو الأطيب والأرق، بكل عيوبه وسلبياته، والنيل مصدر العطاء الذي لا ينضب. الرجال السمر أصحاب العواطف المشتعلة والإصرار والعناد، والصبايا اللاتي لا يتوقف غناؤهن للستائر الحريرية ودبلة الخطوبة وأحلام السعادة وحنان ابن العم في الليالي التي يغيب عنها القمر.
في فيلم "موعد مع الحياة"، تتألق شادية مع كلمات فتحي قورة ولحن محمود الشريف. كيف لمدمنة اللهو واللعب، وهي في مطلع العشرينيات من عمرها، أن تغني على هذا النحو العميق الناضج الخلاب؟. من أين تستمد ذلك الحزن الجميل الذي يكسو وجهها كأنها عجوز حكيمة؟.
شادية وفاتن، اللتان ولدتا في عام واحد بفارق أسابيع قليلة، علامتان في تاريخ الفن المصري. سيدتان راقيتان بحق، تحملان لواء الإبداع المحترم البعيد عن الابتذال والسوقية. لا تتوقف فاتن عن العطاء حتى الرمق الأخير، وتؤثر شادية أن تبتعد وتعتزل وتتوارى عن الأنظار. ربما تدرك أنها لم تعد الشابة الجميلة والأنثى الفاتنة والسيدة ذات الحضور الآسر، ولا تريد لصورتها الراسخة أن تهتز وتصيبها خدوش وطعنات الزمن. لم يعد أمامها إلا أن تقف في خندق العجائز اللاتي تمتلئ وجوههن بالتجاعيد، فهل يليق بها هذا الخندق الخانق؟.
يُذكر لها بالخير أنها لم تتاجر بقرار حجابها، ولم تنخرط في منظومة التائبات المدعيات لتلعب دور الداعية المبشرة بالتوبة على الطراز الوهابي البغيض. تعيش في هدوء ذي جلال، بعيدًا عن الصخب الدعائي الفج الذي تهرول وراءه أشباه الممثلات التافهات.
  • تعليقات المدونة
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Item Reviewed: مصطفى بيومي يكتب: شادية.. "النبش في الذاكرة.. شبه سيرة ذاتية" Description: Rating: 5 Reviewed By: تنوير
Scroll to Top