د. ناجي بشير خاطر يكتب: الإرهاب المتأسلم من الألف للياء ! - ادراك

بحث في الموقع

https://idrak4.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

السبت، 16 ديسمبر 2017

د. ناجي بشير خاطر يكتب: الإرهاب المتأسلم من الألف للياء !




د. ناجي بشير خاطر
(1)
في ضبط المصطلح وتحديد طبيعة الإرهاب
إن الناظر والمحلل لما يجري من أحداث يغطي مسرحها معظم أرجاء العالم الآن، والتي يلعب دور البطولة فيها الإرهاب المنسوب للإسلام، لا بد أن يلحظ وجود فجوات أو مطبات سياسية وأمنية وفكرية كبيرة تجعل من المعركة الحالية ضد ذلك “الإرهاب ”المرتبط بالجهات التي ترفع شعارات إسلامية تبدو وكأنها بلا نهاية واضحة. إذ لا يوجد في الواقع مطب أكبر من سيادة الجهل بأصل وفصل الإرهاب، وغياب الاتفاق المصطلحي حوله، وإنكار أصوله الفكرية، والتغاضي عن ملاحظة رباطه الوثيق بحالة الغلو والتشدد الديني المنتشر بكثافة في العالم الإسلامي، فضلا عن إغماض الأعين عما تقوم به أنظمة حكم ومؤسسات دينية وفكرية واجتماعية وإعلامية وتعليمية بعينها في إنتاجه ورعايته ونشره.
إنه من الخطورة البالغة أن يُنظر للتطورات الأخيرة المتعلقة بالهزيمة العسكرية الساحقة التي تلقتها داعش بالعراق وسوريا باعتبارها تعني قضاءً على الخطر. يجب أن نذكر أنه ومثلما لم تضع هزيمة طالبان أو جماعة أبو مصعب الزرقاوي، الذي كان مسيطراً من قبل على جزء كبير من ذات الأرض التي سيطرت عليها داعش، نهاية للتطرف والإرهاب، فإن هزيمة داعش لن تفضي لنتيجة أفضل. فالبذرة حية ونشطة، والتربة خصبة وجاهزة! على العكس، نخشى أن تكون تلك الهزيمة العسكرية على مستوى الميدان سبباً في ان يتجه أتباع أيديولوجيا الإرهاب الشريرة للبحث عن بدائل أسوأ من ذلك كثيراً. فبمثلما يتفاجأ العالم، مرة تلو الأخرى، بتعدد وجدّة أساليب وأشكال العنف، كدهس الأبرياء بالشاحنات واقتحام المسارح العامة، فمن الممكن أن يتفاجأ ذات العالم بابتداع الإرهاب لوسائل جديدة لم تكن في الحسبان، كاستخدام مستحضرات كيميائية للتسميم الجماعي للأبرياء، أو تعريض ركاب قطارات لخطر الموت عبر إقتحام غرف التحكم، وما إلى ذلك من فرضيات، فالخيال الشرير حده السماء فقط!

في تعريف الإرهاب
لقد أحرز العالم تقدماً واسعاً في مجال بناء المعرفة ونشر الأفكار، لكن لا يزال هنالك قدر كبير من السيولة يشوب نظامه المفاهيمي، حيث من ضمن ضحايا ذلك الخلط تعريف “الإرهاب” نفسه. لقد أصبح يشير المصطلح في تداوله الحالي، و في تمدد فضفاض ومخل، يشير للعنف بمختلف أشكاله؛ من شاكلة عنف الدولة تجاه رعاياها، جرائم الحرب، الاستخدام المفرط للقوة من قبل الجيوش والشرطة، استهداف المدنيين من قبل العسكريين، وما إلى ذلك. لا ريب في أن هنالك مصالح سياسية وأيديولوجية وراء حالة السيولة هذه، من الوضوح بحيث لم تجعل من المستغرب أن يَتّهِم النظام الإسلاموي الحاكم الآن في تركيا، وبتشويه متعمد لدلالة المصطلح، خصمه السياسي فتح الرحمن غولين، بالإرهاب؛ على أرضية تورط الأخير المزعوم في محاولة إنقلاب عسكري بتركيا، أعقبها كما هو معروف تراجع شديد النطاق عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من قبل النظام الإسلاموي الحاكم!
إن هنالك حاجة ملحة لضبط تعريف “الإرهاب” ليشير وليعني بشكل محدد وواضح: الاستخدام المفرط للعنف لتحقيق مكاسب سياسية وأيديولوجية عبر خلق حالة واسعة ومستمرة من الترويع والشعور بعدم الأمان، تتم باستهداف بشر عاديين يمارسون حياتهم الطبيعية، وبدون أن يكونوا مستعدين لذلك الاستهداف. فهذا الضبط الإصطلاحي ضروريٌ جداً و شرطٌ لا غنىً عنه، إذ بدونه يصبح مستحيلاً إجراء تحديد دقيق للجهات المسئولة عنه وتصنيف صحيح للأفكار التي تمهّد له. أما الأشكال الأخرى لاستخدام العنف، فلها مسارات أخرى في النظر والتحليل، و من ثمّ تحديد المواقف منها.

طبيعة الإرهاب
الإرهاب الإسلاموي الحالي ينم عن مشكلة فكرية تعبر عن خلل تصوّري للفرد وللعالم، أكثر من كونه استجابةً لمعضلات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، أو تحدياً لها. إن الأيديولوجية التي يتبناها الإرهابيون، تمثل منظومة من الأفكار تحمل تصوّراً محدداً، بسيطاً، ساذجاً، و لكنه موغل في الرجعية، لما ينبغي أن يكون عليه العالم، و تنطلق هذه الأيديولوجية من فهمٍ معينٍ للدين الاسلامي له جذور راسخة في التاريخ. كما تحتوي تلك الأيديولوجية في داخلها على تصور عن كيفيّة تحقيق شعاراتها وأهدافها، وهو استخدام أقسى أنواع العنف وأكثرها فاعلية من الناحيتين المادية والمعنوية.
إنه من ضمن تلك الشواهد، التي لا تحصى، والدالة على فكرية منشأ الإرهاب، وجود نسخ، متشابهة حد التطابق، من تلك الأفكار وسط ملايين النشطين الإسلامويين والمتعاطفين معهم في جميع أنحاء العالم غض النظر عن جذورهم العرقية، وطبقاتهم الاجتماعية، ومستوياتهم التعليمية. هذا مع الوضع في الحسبان أن هؤلاء الإسلامويين ينتمون لأقطار ومجتمعات لا تجمعها قواسم مشتركة إن نظرنا إليها من زوايا الثقافة والتقاليد والتاريخ ودرجة التطور الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي.
إن إغفال مناهج واتجاهات التحليل التي تتبناها الأكثرية في العالم للأساس الفكري للتطرف، وتجاوز تلك المناهج والاتجاهات للروابط الأيديولوجية القوية التي تجمع بين التنظيمات المتطرفة، تلك التي لم تنتج عن مصادفة، سيقود لا محالة لتبني نتائج خاطئة في فهمها مما سيترتب عليه الفشل في هزيمتها. إن إصرار تلك التحليلات في التركيز على مشكلة الشرق الأوسط وما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، أو سيادة أنظمة القهر في تلك المنطقة واختلال موازين العدالة الاقتصادية والسياسية بها، أو ظروف التهميش التي يعانيها المسلمون بالغرب، باعتبار ذلك يمثل الأسباب الجوهرية التي أدت لنشوء واستمرار التطرف، كل ذلك يدحضه الواقع الماثل. فحركات بوكو حرام بنيجيريا أوطالبان في أفغانستان وباكستان أو الشباب بالصومال، لم تكن من همومها يوماً أن تتبنى تلك القضايا ولم تضمنها في برامجها السياسية أو خطابها الإعلامي، بل لا يهمها من كل قضايا الإنسان غير أن تقطع يد السارق ويرجم الزاني وتلزم المرأة أقصى ركن في منزلها، وما إلى ذلك. و حركة داعش، تلك التي اختارت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ساحة لعملياتها، اختارت أبعد النقاط عن إسرائيل لممارسة نشاطها التدميري. ولم يُطّلَع لها على رؤية، ولو مبسطة، في مجال التنمية الاقتصادية أو البشرية أو الاجتماعية، أو استرداد القدس.
من الملاحظات الجديرة بالانتباه، والتي تؤكد فشل مناهج التحليل السائدة في الإحاطة بأسباب الإرهاب الإسلاموي والتنبؤ باتجاهات سيره، عدم فعالية قانون السبب والنتيجة في ربط التوقعات المفترضة مع المعطيات المقدمة. والدليل على ذلك أن معطيات من شاكلة أن الإطاحة بالأنظمة القمعية بالعالم الإسلامي متوقع منها فتح الدروب لقيام أنظمة راشدة، أو أن هزيمة المتشددين وإبعادهم عن دائرة الحكم والقرار، سيفتح الباب لعناصر الوعي الاجتماعي والتقدم الفكري لتَسَيُّد المشهد، لم تكن صحيحة عندما أخضعت للتجربة. فالواقع يقول أن الغرب فوجيء بمواصلة ارتداء البرقع من قبل النساء الأفغانيات عقب انهيار طالبان، بل على العكس تماماً، تمطى البرقع وتمدد حتى اعتلى روؤس الباكستانيات والصوماليات؛ وهي مفاجأة سببها الأساسي فرضية خاطئة مفادها أن توجّههن ذاك إنما كان بسبب القمع الطالباني، وليس بسبب قناعة ترسخت في عقولهن ووجدانهن مسبقاً. ليس هذا فحسب، فقد امتدت المفاجأة لتشمل الاستغراب من موقف الشارع العراقي المتأثر بالجماعات الاسلاموية، بمختلف مسمياتها، من الغزو الأمريكي عام 2003. فقد إتسم موقف الشعب العراقي بقدر وافر من اللامبالاة والبرود تجاه الغزو، في البداية، ثم تحول لاحقاً وبعد فترة وجيزة، إلى مقاومة واسعة النطاق متعددة المشارب ضد الغزاة. لقد اقتلعت قوات التحالف، غض النظر عن دوافعها الحقيقية، أحد أسوأ الأنظمة التي واجهتها الإنسانية في تاريخها، باعتبار أن تكون النتيجة قيام نظام ديمقراطي مسالم ومتصالح مع الغرب، على الأقل هذا ماطرحه الغزاة، وما كان يمكن أن يحدث فعلاً، إذا كانت القوي الحية في المجتمع العراقي تمتلك رؤية لمستقبل مبني على قيم الحداثة، وذكية بما يكفي لاقتناص الحدث والاستفادة من ذلك التغيير الفجائي الذي لم تدفع مقابله ثمناً يذكر، وهو ما لم يحدث نتيجة للبنية الفكرية المشوهة التي كانت أسيرة لها. لقد تعامل التحالف الغربي مع العراق بقانون السبب والنتيجة، ولكن وفق المعادلة التي تناسب ألمانيا واليابان! فقد تم الافتراض، وهو افتراض صحيح في الظروف العادية، أن فرض واقع يتم فيه سحق ذلك المستبد الدموي والإطاحة بمؤسساته الدموية، سيخلق وضعاً جديداً ناشئاً، صرف النظر عن طريقة نشوئه، يعتبر أفضل ملاءمة للشعب العراقي للحصول على قدر من الحرية السياسية. على الأقل، فإن تجارب اليابان وألمانيا وغيرهما، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تعزز من احتمال تحقق هذه الفرضية!
يؤكد تواجد الأيديولوجيات المتطرفة في مناخات مشبّعة بالرفاهية الاقتصادية كما يحدث في دول الغرب والخليج العربي، أو تستمتع بمناخات ديمقراطية معقولة كباكستان واندونيسيا وماليزيا، أن مسائل التهميش الاقتصادي والسياسي ليس لها غير دور ثانوي بدون شك، سواءً في نشوئها أو في تمددها.  في ذات الاتجاه، فإن تدمير الجماعات الجهادية للآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن بأفغانستان وسوريا ومالي، علماً بأنه لا توجد روابط تنظيمية تذكر بين هذه الجماعات، ليس له دلالة غير كراهية تلك الجماعات المطلقة لإنجازات العقل الإنساني، من منظور أيديولوجي محض يجمع بينها جميعاً.
فأمر الارهاب إذاً، ويقيناً، ناتج عن كراهية المتطرفين للعقل ونواتجه الحداثية، وناتج عن فهم وتصور معين لعقيدتهم الدينية لما ينبغي أن تكون عليه الحياة. عليه، ووفقاً لهذه الإشارات، نزعم جازمين بأن هنالك خطأً منهجياً في التحليل وجب تصحيحه ليستقيم أمر مواجهة التطرف والإرهاب.
خلاصة القول، لقد حان الوقت للعالم الغربي، وسنأتي لاحقاً على أسباب خصّنا له بالإشارة، أن يقتنع بأن الإجابة على سؤاله الأشهر، “لماذا يكرهوننا”، إنما متأصلة في عالمي الفكر والشعور لدى قاطني العالم الإسلامي. عليه أن يعلم بأن تلك الكراهية ناتجة عن وجود تصور ذهني موغل في السذاجة لما ينبغي أن يكون عليه النوع البشري بأكمله، تصور قائم على فهم للدين لا يحتمل غير إقصاء كل التصورات الأخرى عن العالم باعتبارها شر مطلق، وقائم على النظر للعالم القائم باعتبار قيمته الوحيدة أنه نقطة عبور، يجب أن يكون سريعاً، للعالم الآخر.

الإطار الأيديولوجي للإرهاب
عماد أيديولوجية الإرهاب الإسلاموي، أن المسلم مطالب، كفرض وليس كخيار، وفي كل زمان ومكان، بالعمل لإنشاء دولة مطابقة لدولة الرسول محمد (ص) في القرن السادس الميلادي، غض النظر عن اختلاف الزمان والمكان. من الملامح العامة لهذه الدولة المنشودة، الاستناد على نفس الإطار القانوني لدولة الرسول (ص) فكراً وممارسة، وتقسيم العالم إلى داري حرب وإسلام إلى أن يدخل جميع الناس في دين الإسلام أويقبل أهل الذمة منهم وضعية المواطن من الدرجة الثانية. كما أن من تلك الملامح اعتبار كامل جسد المرأة عورة ومنع خروجها للحياة العامة وحق الزواج بها وهي قاصر، وتحريم كل ما كان محرماً وقتها كالغناء والموسيقى وما إلى ذلك، وتحليل ما كان حلالاً كالعبودية مثلاً. بشكل عام، على الدولة المنشودة مؤسسات ومواطنين، النظر لأي جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك العلم الطبيعي، من خلال المناظير التي كانت متبعة في تلك الحقبة الزمنية.
ليست قوانين الدولة وفلسفة عقدها الاجتماعي هي المعنية وحدها بهذه النظرة، بل إن طريقة إنشائها نفسها يجب أن تتبع المناهج والوسائل التي يعتقد أولئك الإرهابيون، ومن يتفقون معهم، أنها تعبر عن تلك التي تم بها تأسيس الدولة العربية الإسلامية الأولى. يمثل الجهاد والشدة في التعامل مع الخصوم لب هذه المناهج والوسائل، حيث يتم إخضاع المختلفين لثلاثة خيارات لا غير، الإسلام وفق ذات النمط الذي تتبناه تلك الجماعات، الموت، أو القبول بوضعية المواطنين من الدرجة الثانية وهذا خيار متاح فقط للمسيحيين واليهود، فالاختلاف مع الأديان والملل الأخرى إنما هو اختلاف تناحري لديهم، لا يحتمل الندية في العيش أو المساواة في القيمة.
الجدير بالذكر أن الأغلبية الساحقة من تنظيمات الإسلام السياسي، السنية منها والشيعية، لا تختلف دعواتها من ناحية الجوهر عن تلك المشار إليها، بيد أنها لجأت، ولرفع الحرج الناشئ عن مصادمة جزء من أفكار تلك الأيديولوجية للفطرة البشرية، وأيضاً لكسب الدعم السياسي، لجأت لإخفاء بعض نواياها من جهة أو تأويل بعض النصوص الدينية التي يمكن أن تصادم الفطرة السوية للإنسان المعاصر بما يزيل الحرج عنها. وفي فعلها التمويهي ذلك، وقعت في تناقضات لا حصر لها، حيث إن أفكارها الأساسية عن الدولة التي تنشدها قائمة على الإذعان الأعمى لما تقوله النصوص، في رفض واضح ومعلن لدور العقل البشري في القبول والرفض، بينما تلجأ لذلك العقل لإعادة تفسير وتأويل تلك النصوص والأفكار الموروثة التي تنافي فطرة الإنسان العصري من الجهة الأخرى. وكمثال ساطع، فإن كل تنظيمات الإسلام السياسي تتبنى مفهوم أن “لا اجتهاد مع النص” وأن “الحاكمية لله” بمعنى أن لا بشر له حق التقرير في حياة الناس إنابةً عن النص الإلهي، بيد أنهم يلجؤون، وللضرورة السياسية، لتأويل النص القرآني الواضح “فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وأحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم”، والحديث الصحيح الصريح: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم”، يؤولونها باعتبار أن تلك النصوص مرتبطة بزمان ومكان محددين، ولا ينطبقان على زماننا الحالي، في منافاة كاملة لقواعد التفسير التي تتبناها تلك التنظيمات! فالفرق، إذن، بين أيديولوجية الجماعات الإرهابية من شاكلة داعش وبوكو حرام، وأيديولوجيات الإسلام السياسي الأخرى كالوهابية والاخوان المسلمون، إنما فرق في المقدار وليس النوع، وفرق في درجة المراوغة وليس في مستوى الاستقامة!

(2)
لقد تضافرت عوامل كثيرة لصياغة العقل الجمعي المسلم والوجدان الجمعي المسلم في شكليهما الراهنيين. منها ما يتعلق ببيئة النشوء الأولى، ونعني هنا الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، بكل جفافها الفكري وتخلف أبنيتها السياسية والاجتماعية وضحالة معارفها. ومنها ما تسببت فيه أنظمة القهر منذ دولة بني أمية وتعمدها قطع الوشائج الفكرية بين الطرح الديني الرسمي والمنتجات الفكرية للشعوب الأخرى. كما منها، وهو أخطرها، ما يتعلق بالنفوذ القوي لمؤسسة رجال الدين وما رسخته من مفاهيم وقواعد تفكير لا يسمح للفرد المسلم بتجاوزها، حتى وإن كان ذلك من خلال نصوص الدين نفسها، وإلا تعرض لقهر معنوي ومادي يمكن أن يصل مرحلة القتل.
كل ذلك صبغ المجتمع المسلم بملامحه السائدة، ككيان فاقد للحيوية، وناقص للقدرة على الفعل الإيجابي، متشبثاً بالماضي متطلعاً إليه، خائفاً من التجديد نافراً منه، قابلاً للتعبئة العاطفية باستمرار ولأقل الأسباب، موسوساً بوجود مؤامرة خارجية تستهدف دينه، مهجوساً بالخوف من ارتكاب المعصية وإغضاب الإله، ومذعناً للطغيان متقبلاً له.

كيف تشكلت أيديولوجيا الإرهاب
تؤكد معظم الدراسات التاريخية المختصة بالبحث في تاريخ الجزيرة العربية غياب أي مظهر للدولة بسماتها المعروفة في شبه الجزيرة العربية عند انتصار الإسلام، فقد كانت القبيلة هي أعلى أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي، كما كان الشعر الوصفي بمناحيه المختلفة التجلي الفكري الأساسي، إن لم يكن الوحيد. لقد توحدت الجزيرة العربية في شكل دولة، ولأول مرة في تاريخها، في تلازم كامل مع الإسلام، وهو أمر تسبب في أن تلعب شخصية النبي (ص) دورين رئيسين: رسول للإسلام ورئيس لهذه الدولة.
حتمت ضرورات بناء الدولة والحفاظ عليها وتمددها الهائل في وقت وجيز شمل معظم العالم القديم وقتها، في ظل غياب للأبنية الفكرية الملائمة من نظريات سياسية وفلسفية ومنظومات قانونية وما إلى ذلك، حتمت خلق حركة فكرية واسعة النطاق عمادها النص القرآني وذلك لسد ذلك الفراغ، وذلك بعد أن تم تفسير هو تأويله في إطار السياق القبلي البدوي، وتجربة الرسول (ص) في الحكم، التي تم إضفاء قداسة كاملة عليها بعد اعتبارها جزءً من رسالته.
لقد اتسمت الدولة العربية الإسلامية الأولى منذ وقت مبكر، وتحديداً مع سيطرة بني أمية على الحكم، بالطغيان السياسي وغلبة الرأي الواحد؛ وهو وضع كانت له انعكاسات حاسمة في البنية الفكرية حيث تم تنميطها لتعادي كل ما من شأنه أن يفتح الباب للتقدم والتغيير. لقد تم في فترة وجيزة، بمعايير التحولات الإنسانية الكبرى، بناء منظومة فكرية كاملة أصبحت هي المرجعية الوحيدة والفاصلة. كما تم تحصين هذه البنية جيداً بإرساء مناهج وقواعد معرفية في صلبها تقف حاجزا صد ضد أي محاولات لتحديثها، حيث من ضمنها:
* اعتماد الحديث النبوي مصدراً للتشريع مساوٍ للقرآن رغم أنه تم تدوينه بعد قرنين من وفاة النبي (ص) ورغم اشتماله على ما يؤكد دور العامل البشري فيما هو منقول.
* اعتبار آليتي الإجماع والقياس مصدراً لتوليد الأحكام، فيما لا نص واضح فيه، و جزءً من منظومة الدين، رغم عدم ورود ذلك في النصوص القرآنية.
* وضع مبادئ وقواعد متعسفة في تفسير النص الديني، واعتبارها أمراً إلهياً رغماً عن أنها من صنع الفقهاء أنفسهم، من شاكلة:”لا اجتهاد مع النص”، و”العبرة بعموم النص وليس خصوص السبب”، “المعلوم من الدين بالضرورة”، إلخ.
* حصر التفسير والتأويل والاجتهاد، بل إبداء الرأي في قضايا الحياة المختلفة، على فئة رجال الدين، هؤلاء الذين يتم تأهيلهم مسبقاً وفقاً للمبادئ والمناهج والأسس المشار إليها أعلاه!
لقد أدت سيادة نظم القهر والطغيان في العالم الإسلامي، ومناعة تحصين المنظومة الفكرية الإسلامية الناشئة إلى فشل حركة الترجمة النشطة لثقافات الحضارات الأخرى، بكل غناها المعرفي والفلسفي، في تطوير تلك المنظومة وصبغها بالطابع العقلاني. لقد تجلى أثر ذلك بوضوح في هزيمة مدرسة المعتزلة على أيدي دعاة الاتجاه النقلي في التفكير، وهي هزيمة عبر عنها جيداً المفكر الأمريكي المعاصر روبرت ريللي بتسميتها بالانتحار الثقافي، وذلك في كتابه “إغلاق العقل المسلم”.إن العالم الإسلامي يجني الآن ثمار هذا الانتحار الثقافي، بؤساً شاملاً في مناحي الحياة المختلفة، تثبته كل مؤشرات التقدم الإنساني، وبيئة ثقافية فكرية رجعية ومنغلقة، يعبر عنها تغلغل الفكر المتطرف في المجتمعات المسلمة.

الغلو والتطرف والإرهاب: تفاوت في مقدار الجرعة
إن البنية الفكرية السائدة في المجتمع المسلم والتي يذعن لها الفرد المسلم العادي، تدفعه دفعاً في اتجاه الغلو بكل مظاهره. وبالبنية الفكرية لا نعني الدين نفسه ممثلاً في نصوصه، وإنما نقصد الفهم السائد والمسيطر للدين، وهو أمر بشري تماماً نشأ وترسخ في ظروف تاريخية تعرضنا لها سابقاً.
إن الخضوع لمفاهيم تلك البنية الفكرية، كالقول بأن للدين موقف ورأي في كل قضايا الحياة، وتصوير الإله في المخيلة باعتباره قاسياً في عقابه عند أي هفوة مهما صغرت، كأن يقع غطاء رأس المرأة عن شعرها أو أن يفوت الفرد صلاة من الصلوات، تجعل من المسلم في حالة بحث دائم عن رأي الدين، ممثلاً في “علمائه” وفقهائه، فيما يطرأ على حياته من أحداث، ودائم البحث عما يجنبه الغضب الإلهي. ويصبح بالتالي الغلو في التدين، أمراً مرغوباً وشائعاً باعتباره الأصل في علاقة الأرض بالسماء وشكلاً للممارسة لا يمكن الاستغناء عنها.فالغلو، إذن، هو حالة ذهنية ونفسية تضغط الفرد والجماعة لقياس كل ظواهر الحياة بمعايير الدين، وتلزمهم بتحديد موقفهم منها عبر مفهومي الحلال والحرام، بدلاً عن مفهومي الصحة والخطأ.
أما التطرف، فيمثل مرحلة تالية من مراحل الاعتقاد، تسيطر فيه على الفرد الرغبة على تحويل الأفكار التي رسختها فيه حالة الغلو إلى أفعال محققة على أرض الواقع، مدفوعاً في ذلك بمؤثرات داخلية ككمية الجرعات الدينية التي يتلقاها وظروفه المعيشية والاجتماعية، أو بمؤثرات خارجية كالمناخ السياسي والحالة الاقتصادية ودرجة حدة الخطاب الذي يقتحم عقل الفرد المسلم من خلال قنوات متعددة: الإعلام، المسجد، المدرسة. يساعد في ذلك وبقوة غياب التفكير العلمي بشكل عام وفقدان الزعامات المستنيرة ذات الكاريزما والعطاء والقدرة على التأثير. إن الانتقال من حالة الغلو لحالة التطرف لا يستلزم صراعاً فكرياً عميقاً داخل الفرد، حيث أن بذرة التطرف مزروعة أصلاً في تربة الغلو.نفس الأمر ينطبق على حالة الإرهاب، الذي لا يختلف مسار الوصول إليه عن ذاك الذي يقود من حالة الغلو لحالة التطرف، حيث أن الاختلاف الرئيسي بين المتطرف والإرهابي، أن الإرهابي وصل مرحلة اليأس من تحقيق ما يصبو إليه المتطرف عبر الوسائل السلمية، فاختار العنف والترويع وسيلة للتغيير.
إن من الدلائل الواضحة على سهولة الانتقال من مرحلة الغلو لمرحلة الإرهاب، تلك الحالة من الإنكار و الدهشة الشديدة التي تنقلها الأجهزة الإعلامية عن ذوي وجيران ومعارف مرتكبي الأعمال الإرهابية عند مقابلتها لهم لأخذ رأيهم فيما حدث، حيث يؤكدون، وبما يشبه الإجماع في الحالات التي مررنا عليها، أن مرتكب الحادث شخص هادئ ومسالم ولا تبدو عليه مظاهر التفكير الإرهابي. إن هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا باعتبار أن الحدود والفواصل بين الغلو والتطرف والإرهاب، من الانخفاض بما يسمح بوصفها بالواهية من فرط صعوبة تمييزها.
وفي هذا يظل الأساس الفكري للغلو والتطرف والإرهاب واحداً في كل الحالات، وهو قيام دولة بذات مواصفات الدولة العربية الإسلامية الأولى. محكومة بتشريعاتها ومُدارة بمناهجها، في ظل عدم اعتبار كامل لاختلافات الزمان والمكان.كما يظل الاعتراف بالعنف والترويع قائماً سواءً تم الاعتراف به علانية كما يقول ويفعل الإرهابي، أو يجري إخفاؤه بحجج مختلفة في حالة الآخرين.
لا نقصد من هذا التحليل أن نصف كل المسلمين بالتطرف بالطبع، فالأغلبية العظمى منهم معتدلون دينياً ولا ينوون شراً لا لأنفسهم أو لغيرهم. لكن مع وجود هذه البنية الفكرية التي تعرضنا لها، وفاعلية القوى والمؤسسات التي تنتج الإرهاب، والتي سنتطرق لها لاحقاً، تصبح مسألة الانتقال من مواقع الاعتدال لمربعات الغلو والتطرف، ومن ثمّ الإرهاب، أمراً وارداً وبقوة. كما يصبح أمر ركود المجتمعات المسلمة في جوانب الحياة الأخرى كالاقتصاد وإنتاج العلم والمعرفة والفن والأدب أمراً حتمياً.

ماهي الأفكار والقوى التي يستهدفها الإرهاب
يمثل العقل والتفكير العقلاني أعداء جوهريين للفكر المتطرف والإرهابي، حيث يصادمان تماماً الفكرة المركزية، ذات الطابع الثبوتي، التي بنيت عليها تلك الأيديولوجيا، والقائمة على تحكيم النص واستبعاد أي تعديل جوهري أو شكلي على التصورات التي بنيت عليه. فبحكم ديناميكية العقل، واعتماده على قانون السبب والنتيجة للوصول للأحكام، فإنه لا بد أن يكون عدواً للأيديولوجيا المتطرفة.
تشكل الحداثة وقيمها، تلك التي تعتبر المولود الشرعي للعقلانية، عدواً آخر للأيديولوجيا المتطرفة، حيث تنظر للمنتجات الحداثوية، خاصة المعنوية منها كالأفكار والقيم، باعتبارها خروجاً عن النمط الذي يريده الخالق للناس. وهو أمر يعبر عنه جيداً ما تكنه أيديولوجيا التطرف لحرية المرأة وللأعمال الفنية بمختلف مناحيها، وكراهيتهم العميقة لكل ما يرتقي بمنظومة القيم أو يحفز من روح الابتكار والابداع والتجديد.
لا يستهدف التطرف والإرهاب الأفكار والمناهج فقط، وإنما أيضاً البشر الذين لا يحملون أيديولوجيته، حتى لو شاركوه العقيدة نفسها. فالأفكار التي يستند عليها التطرف والإرهاب، قائمة على الوصاية على كل الناس وعلى تكفير كل من يختلف معها وهدر دمه. باختصار التطرف والإرهاب لهما عداء جذري مع كل شيء طيب يتناغم مع العقل ويعلي من شأن الحياة، ولهما عداء أكثر حدة مع الحضارة الغربية، تلك تمثل أمريكا وأوروبا موقع الريادة فيها، ويمقتان منجزات تلك الحضارة، حد الموت، باعتبار أنها تمثل أقصى درجات الاختلاف عن المشروع الماضوي الذي يدعوان إليه.

(3)
كون أن التطرف والإرهاب يعتبران ظاهرة فكرية، لا يعني أن هنالك عملاً فكرياً محدداً، كمحاضرة أو كتاب، يطّلع عليه الشخص فيصير متطرفاً أو إرهابياً. كما لا يولد الناس إرهابيين أو متطرفين بالطبع، ولا يصلون لتلك المراحل من تطورهم عبر مسار تطور ذاتي معزول عن المؤثرات المحيطة بهم والقوى الفاعلة فيها.
الواقع يقول إن هنالك قوى ومؤسسات لها الرغبة والمقدرة على خلق تلك الأفكار وتعميمها والطَرْق المتواصل عليها لخلق المناخات والظروف المواتية لها للسيطرة على المجتمع والدولة. فالفكرة السائدة في العالم الاسلامي، بشقيه السني والشيعي، تقول بأن هناك حلاً اسلامياً لجميع القضايا التي تواجه الإنسان في الفضاءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل حتى العلمية؛ وأن الإنسان المسلم مكلّف من قبل الإله بتطبيق هذا الحل السماوي.رغم أن هنالك عدد لا يحصى من الشواهد والأدلة على بطلان هذه الفكرة من الأساس، إلا أن الواقع الحالي يؤكد أنها هي الفكرة السائدة والمسيطرة.

القوى والمؤسسات التي تنتج التطرف والإرهاب
تقوم على زراعة هذه الفكرة ورعايتها والترويج كل المؤسسات الدينية تقريباً، الرسمية أو غير الرسمية، مع اختلافات غير جوهرية فيما بينها،كالتفاوت في مقدار الشحنات التي تبثها على الأتباع، أو الاختلاف في جدول الأولويات وما إلى ذلك.من تلك الاختلافات أيضاً أن الهيئات الرسمية، كالأزهر بمصر وهيئة كبار العلماء بالسعودية، تناديان بإنفاذ تلك الفكرة من خلال سلطة ولي الأمر، بينما التنظيمات السياسية الإسلاموية تنزع لفرضها بقوّة الشارع عند بعضها، وبقوّة السلاح عند بعضها الآخر، مع ثبات الجوهري والمؤكد وهو أنهم جميعاً يتفقون على الهدف النهائي، وهو إقامة ما يسمونه حكم الله!
تتفق هذه المؤسسات أيضاً في رفضها لأي محاولات للتفكير الجهير تأتي من خارجها، وبالذات تلك التي تحاول مراجعة مناهج وقواعد عملها، أو ترمي لطرح أفكار من داخل النص الديني نفسه تؤكد إمكانية تماهيه مع مستجدات العصر. والأمثلة على ذلك كثيرة في الواقع، فالأزهر الذي يوصف بالاعتدال، يصادر ويمنع توزيع أي مكتوب يرى أنه يشكل تحدياً له، بل يصل الأمر حد سجن من ينافسه في الطرح كما حدث للمفكر نصر حامد أبو زيد والناشط إسلام بحيري. والحكومة الماليزية لا تتردد من جانبها، لإرضاء المؤسسة الدينية، من إصدار قرار، أواخر يوليو 2017، بحظر اقتناء كتاب “كسر الصمت: أصوات الاعتدال – الإسلام في ديمقراطية دستورية” وسجن من يخرق ذلك القرار لمدة ثلاثة سنوات، علماً بأن الكتاب يحتوي على عدد من المقالات بأقلام عدد من الشخصيات المسلمة البارزة الداعية إلى نشر شكل أكثر تسامحا من الإسلام!
ليست المؤسسات الدينية هي القوى المنظمة الوحيدة لرعاية الفكر السلفي، بل يوجد ما هو أعمق تأثيراً منها في الوقت الحالي، وهي هيئات وأحزاب الإسلام السياسي، والتي تتصف بحركية عالية في الدعوة لتطبيق الفكر السلفي، مع تحليها ببعض البراجماتية على مستوى التاكتيك وليس الاستراتيجية. فحركة الإخوان المسلمين، التي يبرئها بعض الغربيين، من التطرف والإرهاب، رغم أن شعارها الأساسي الذي اختارته منذ إنشائها قبل ثمانية عقود كان هو السيف، في إشارة لا تخطئها العين لتبنيها لمفهوم الجهاد العنيف، هذه الحركة لا تختلف عن المؤسسات الدينية في طرحها إلا في التفاصيل والأولويات وليس في جوهر الفكرة. فكلها يسعى لتطبيق تعاليم الإسلام وفقاً للتفسيرات التي تم صياغتها في القرون الثلاثة الأولى بعد وفاة النبي محمد (ص)، باعتبارها واجباً دينياً، تنفذ بذات الطريقة التي طبقت بها بدون أي اعتبارات أخرى.
تمثل المؤسسات الإعلامية، على تعدد أنواعها، بالعالم الإسلامي أحد الأدوات الخطيرة في ترسيخ فكرة الحل الإسلامي لقضايا الحياة، والتسويق لفكرة مرجعية المؤسسة الدينية باعتبار قوامتها على شئون الناس. صحيح أن التطورات التقنية التي سادت العالم في النصف الثاني من القرن الماضي فتحت آفاقاً جديدة أمام المخالفين للتوجهات الرسمية في العالم الإسلامي، إلا أن أصواتهم لا تزال خافتة جداً بحكم الإمكانات الهائلة التي يتوفر عليها الإعلام بشقيه، الرسمي وغير الرسمي،والواقعين تحت تأثير الفكر الماضوي. لا تكتفي المؤسسات الإعلامية بعرض المحتوى الماضوي بشكل متكرر، أو إغراق منابرها برجال الدين الرجعيين والحركيين الإسلاميين، والإكثار بدون اعتدال من المواضيع الدينية على حساب المواد الأخرى، وإنما ايضاً بشيطنة مخالفي الإسلام السلفي في نكهاته المختلفة، وتصوير الغرب كحضارة وثقافة وكأن ليس لديه بضاعة ينتجها غير تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين، وتمييع مصطلحي التطرف والإرهاب السائدان الآن بشكل يوحي وكأنهما يمثلان ظاهرة طبيعية مغروسة في كل الثقافات وليست مرتبطة بالإسلام السلفي وحده. كل ذلك بغرض تعبئة الفرد المسلم وجدانياً بالكراهية، وبالتالي تهيئته لقبول الأيديولوجيا المتطرفة والاحتفاء بعملياتها المرفوضة أخلاقياً.
تعتبر المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي ركيزة أساسية في تعميم وترسيخ الأفكار الماضوية القائمة على محاكمة الحاضر بالماضي، أو بمعنى آخر أن يكون نموذج الدولة العربية الإسلامية الأولى هو المرجعية لما ينبغي على المسلمين تطبيقه كواجب ديني. وعندما نتحدث عن دور المؤسسات التعليمية في ترسيخ تلك النظرة الماضوية، فإننا نضع نصب أعيننا محتوى المقررات الدراسية التي تعطي مساحة أكبر كثيراً من المعقول للدروس الدينية على حساب المعارف الأخرى، والتي تركز على تقديم فهم ديني واحد، وهو الفهم السلفي للإسلام، وإغفال تلك الرؤى القديمة و الجديدة التي تقدم فهماً مستنيراً للدين يتماشى مع العصر ويتسق مع أفضل القيم الإنسانية. كما نضع في الاعتبار أيضاً بؤس مناهج التلقي للطلاب التي تنزع نحو التلقين، وتمنع بشكل مؤسس التفكير التحليلي الناقد المستند على العقل، مما يؤدي في النهاية لخلق ذهنية قابلة للإذعان والتسليم الأعمى، وهو أمر يتفق مع أهداف الأيديولوجيا السلفية.
يحتل المسجد كما هو معلوم موقعاً هاماً في حياة المجتمع المسلم، حيث لا تقتصر وظيفته على كونه مكاناً لممارسة العبادة، وإنما يتعداها ليصبح مؤسسة إجتماعية وسياسية شاملة. لا يعتبر هذا الأمر جديداً، حيث أنه أمر فرضته ضرورات تلازم السلطتين، الروحية والزمنية، في شخص النبي (ص) إبّان تأسيس دولة المدينة، باعتبار أنه لم تكن هناك دولة ومؤسسات حكم في ذلك الزمان بالمعنى المعروف، كما أبِنَا من قبل. سوى أنه وبعد تبدل الحال وتشكل الدولة وبروز مؤسسات الحكم، كان من الواجب إرجاع المسجد لدوره الروحي كمقر لممارسة العبادة، بيد أن القوى الاجتماعية السائدة، في تحالفها الوثيق مع المؤسسة الدينية، وجدت في فرضه على واقع المسلمين ضرورة هامة من أجل صيانة الواقع عبر غسيل الأدمغة الذي تمارسه السلطات الدينية من خلال منبر المسجد في خطب الجمعة وغيرها، كما تمددت وظيفته، لاحقاً، لتشمل دوراً تربوياً وتعليمياً مستنداً على الأيديولوجيا السلفية، وأصبح المسجد بالتالي رافداً غنياً يصب في نهر الأيديولوجيا السلفية.
لابد من الإشارة إلى أن القوى الحاكمة في العالم الإسلامي، وهي أنظمة محافظة في عمومها، أصبحت هي نفسها ضحية لذات القوى والأفكار التي أشرفت ولا تزال تشرف على رعايتها! لقد أفلت من يديها هذا المارد الذي طالما استخدمته في قمع خصومها من العلمانيين والليبراليين ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان فكرياً، وها هي الآن تعيش في ارتباك عظيم، متنازعة بين التصدي للفكر المتطرف وبالتالي فتح الأبواب أمام القوى الداعية للإستنارة والديمقراطية والحكم الرشيد القائم على الحقوق، وما يمكن أن يسببه ذلك من فقدانها للسلطة، و بين أن تختار الإبقاء على الإطار الفكري الذي يسمح بانتشار الفكر المتطرف الذي لايرضى بغير قضم كل الثمرة المشتهاة، السلطة! وطبعاً، ولهشاشة بنائها وتخلفها لا تستطيع مواجهة القوتين في وقت واحد!

الشعوب المسلمة!
تعرضنا سابقاً للقوى والمؤسسات التي تنتج التطرف والإرهاب، كما عرّجنا على تلك المستهدفة منه، فأين هو موقع الغالبية من الشعوب المسلمة في هذه المعادلة؟ هذا سؤال تفرض الإجابة عليه مجموعة من الأسئلة الأخرى من شاكلة: لماذا تتبنى الشعوب المسلمة أطروحات الفكر السلفي وتدافع عنها؟ لماذا يلجأ المسلم، من الأساس، لجهة من الجهات أن تحدد له ما إذا كان تقديم باقة من الزهور للمرضى بالمستشفيات، أو لعب الشطرنج حرام أم حلال؟ ما الذي يدعو لاعبي الفريق السعودي، مثلاً،لإحراج أنفسهم وبلادهم أمام ملايين الناس برفضهم الوقوف حداداً لمدة دقيقة واحدة كنوع من التضامن الرمزي مع ضحايا تفجيرات مانشستر 22/5/2017 وذلك في مباراته أمام رصيفه الأسترالي في يونيو الماضي؟ ما الذي يدفع طلاب جامعيين بباكستان في مقتبل الحياة لتعذيب وقتل زميل لهم علناً أمام حشد من الطلاب بدون رحمة منتصف أبريل الماضي، فقط لأنه ليبرالي؟ ليس هذا فحسب، بل  أن رجلي دين استخدما مكبر الصوت في المسجد لبث خطاب الكراهية ضد الطالب القتيل وعائلته، ووضعا الكثير من العراقيل أمام مشاركة المواطنين في جنازته!ما الذي يجعل ذلك الحدث الشنيع يمر بدون صوت احتجاج لا من الشعب ولا من الطلبة، ولا من أساتذة الجامعة نفسها (راجع العربية.نت 14/4/2017)؟ ما هو السبب الذي يدفع مليون متظاهر أندونيسي للتدفق نحو شوارع المدينة الأكثر انفتاحاً، جاكارتا، وفي دولة يحكمها دستور علماني، يطالبون بمحاكمة عمدة مدينتهم السابق، المسيحي، باسوكي تاهاجا بورناما، بسبب إساءة مزعومة للدين الإسلامي ناتجة عن تصريحه في ملتقى سياسي عام بأن خصومه يخدعون الناخبين بتخويفهم بالعذاب في الآخرة إذا صوتوا له كمسيحي، عبر تفسيرهم الخاطئ لأحد آيات القرآن علماً بأن الكثير من الفقهاء التقليديين يشاركونه نفس الاعتقاد في خطأ تفسير تلك الآية (راجع الجزيرة.نت 2/12/2016)؟ ما الذي يمنع ولو حفنة قليلة من جملة 1,500 مليون مسلم على هذه البسيطة للخروج ولو مرة واحدة للشارع للتعبير عن رفضهم للمجازر وأحداث القتل التي تحدث باسم دينهم الذي هو أغلى ما يملكونه، بينما يملأون شوارع المدن الكبرى إستجابة لطلب أحد الدعاة في قضايا أقل من هذه كثيراً مثل موضوع عمدة جاكرتا السابق وغيره؟ كيف يمكن تفسير الفرح الغامر الذي عمّ شعباً خضع لأربعين عاماً لأسوأ أنواع الحكم، كالشعب الليبي، بأن يكون أول قرار تتخذه حكومته الجديدة التي توجت ثورته، وفي مهرجانها الاحتفالي الأول بانتصار الثورة، إلغاء القانون الذي كان يمنع تعدد الزوجات!؟
هذه وغيرها من آلاف المشاهد والأحداث تعبر عن درجة سيطرة الأيديولوجيا السلفية، فكراً ومؤسسات، على عقول وأفئدة المسلمين. فهل يمكن الاستناد عليها لاعتبار الشعوب المسلمة بحكم قبولها المعبر عنه بالتأييد المباشر أو عبر الصمت في وقت الكلام، لما يقوله ويفعله المتطرفون والإرهابيون، هل يمكننا اعتبارها شريكاً فيما يحدث؟
مع كل هذه الحقائق الصادمة، نرى أنه من التجني أن نضفي صفة الشر على الأغلبية الساحقة من المسلمين. فالمسلمون مسيطر عليهم بالكامل وأشبه بالأسرى لسلطة معنوية غاشمة. والإجابة على تلك الأسئلة يجب أن نبحث عنها في علم النفس الاجتماعي، أي في تمظهرات سيكولوجية الإنسان المقهور، أو تجليات متلازمة ستوكهولم، مع تغيير شكل القوة المتحكّمة في الضحايا، من القوة المادية الغاشمة، للقوة المعنوية الناعمة، وهي في حالتنا الاستعباد باستخدام الدين. فالمسلمون مختطفون فعلاً من قبل التطرف، فكراً وأشخاصاً ومؤسسات. وحال الكثير منهم كحال هيلينا حين خاطبت ديميتريوس في مسرحية شكسبير الخالدة، حلم ليل صيف: كلما زدت في ضربي يا ديمتريوس زدت تذللاً لك، لا تعاملني أكثر من كلب.

(4)
لهزيمة التطرف والإرهاب لا بد من الاتفاق أولاً على طبيعته باعتباره قضية فكرية إبتداءاً. من المهم أن نفهم أن أي حرب لا تستهدف هزيمة فكرته الأساسية والمؤسسات المنتجة والمروجة لها، لن تستطيع استئصاله. المواجهة الأمنية والعسكرية يمكن أن تهزمه عندما يشرع في التحول لدولة بأن ينشيء جيشاً نظامياً ومؤسسات للحكم وما إلى ذلك، لكن من المهم الإعتراف بأن هذه الهزيمة العسكرية ستكون مؤقتة طالما كانت الفكرة حية، والمؤسسات التي تروجها قائمة وفاعلة. وليس هناك أسطع مثال على ذلك، من أن جزءً رئيسياً من الرقعة الجغرافية التي أقامت داعش عليها دولتها، كانت، وقبل داعش بسنوات قليلة، تحت سيطرة جماعة أبومصعب الزرقاوي الذي لا يقل عنها بشاعة!
تدل التجارب السابقة في التعامل مع التطرف والإرهاب، بأنه يشرع في التحول لشكل دولة، يمكن أن يجمّع ويركّز قواه داخلها، في حالة نشوء فراغات سياسية كما حدث في أفغانستان والعراق، وفي عدم وجود تلك الفراغات فإنه يعتبر كل البسيطة ساحة لمعركة مفتوحة. في هذا يلزمنا التذكير بأنه لا توجد آلة عسكرية مضادة في مقدورها الاستعداد والتواجد في أي بقعة في العالم وفي أي لحظة للقضاء على الإرهابي قبل ان يضرب ضربته. وهو ما يجعل من أمر مواجهته وهزيمته الفكرية، وتحرير عقول أسراه، أمراً محتوماً، ليفقد المدد البشري الذي هو أداته ومصدر قوته الرئيسية.
تعتبر هزيمة الإرهاب مسئولية العالم جميعاً، غض النظر عن إختلاف العقائد والثقافات وأنظمة الحكم. فالإرهابي الشيشاني، كمثال، لم يحصر أرض معركته في مسارح موسكو أو مدارس بيسلان، بل إنتقل بها لشوارع بوسطن بأمريكا، وآثار تدمر بسوريا، في معركة مفتوحة زماناً ومكاناً. لذا فإن القوى الحية، على مستوى العالم، وغض النظر عما بها من إختلافات في الرؤى والأهداف، مطالبة بإيجاد أفضل صيغة ممكنة لتوحيد رؤيتها، وتنظيم قواها،  لأجل استئصاله.
وبدون إغماط لدور كل القوى الحية في العالم، فإن هنالك واجباً خاصاً للدول الغربية، ونعني بها هنا أمريكا وأوروبا، في محاربته. وهذ التخصيص للعالم الغربي كرأس رمح لمواجهة التطرف والإرهاب ناتج عن أسباب متعددة، أهمها أن الحضارة الغربية في مستواها الراهن تمثل الهدف المفضل على ما سواه للتطرف والإرهاب باعتبار أنها المصدر الرئيسي للحداثة في عالمنا، كما أنها الأكثر احتضاناً لقيم الديمقراطية والمساواة، والأكثر إحتراماً لحقوق الإنسان، والأكثر تضرراً من عدم الإستقرار.
وفي تقييمنا هذا لا نعطي صك براءة على بياض لهذا العالم. فالعالم الغربي ليس كله في مستوى واحد من زاوية الالتزام بهذه القيم الرفيعة، كما لم يصل ذلك العالم الغربي لمستوى أن يقدم إلتزاماته الأخلاقية على مصالحه الاقتصادية والسياسية المباشرة. والأهم من ذلك أنه، وبرغم كل إمكانياته البحثية والاستخباراتية الهائلة، لم يصل لتقييم صحيح لقضية التطرف والإرهاب، وبالتالي يشكل رؤية واقعية لمحاربتها ويحشد بالتالي ما تتطلبه هزيمتها. بل الواقع يقول إن هذا الغرب، وبتغليبه للمصلحة الآنية على منظومة الأخلاق، لعب دوراً كبيراً في دعم التطرف بدون أن يعي لخطورة ذلك على ذات نفسه مستقبلاً. لكن، ورغم كل هذه النواقص، فإن الحقائق الماثلة على الأرض وتوازن القوى السائد عالمياً، يؤكدان بأن لا مناص أمام هذا الغرب غير أن يتولى زمام المبادرة والريادة في استئصال خطر التطرف والإرهاب الواقع على الإنسانية جمعاء.
إن قناعتنا بأن التطرف والإرهاب ظاهرة فكرية، تعني وبوضوح لا لبس فيه، أن استئصاله لا يكون إلا بالفكر، بمعنى أن يتم تأسيس منظومة فكرية بديلة منطلقة من الدين نفسه ولها المقدرة على إقناع المسلمين بامكانية تبني أفضل القيم التي توصلت إليها الانسانية بدون التضحية بعقيدتهم، وتحديث منظومة الفقه التقليدي الموروثة لتنسجم مع مقاصد الدين ومصالح الناس وحقائق العصر بدلاً عن الإذعان الأعمى لمفاهيم وأفكار أنشأها بشر مثلنا لمعالجة أوضاع بعيدة كل البعد عن أوضاع اليوم. في الواقع، فإن العقود القليلة الماضية، شهدت مراجعات كثيفة لكل مكونات الفكر الإسلامي السائد بواسطة المئات من المفكرين الاستناريين، من ضمنهم قطاع من رموز  المؤسسة الدينية نفسها، نتج عنها تطورات عميقة جداً في تأسيس المنظومة البديلة.
إن استئصال التطرف والإرهاب عبر تفكيك بنيته الفكرية التي يستلهم منها أيديولوجيته الشريرة وإحلالها ببنية فكرية بديلة، يحتاج لرؤية سياسية واضحة يصحبها عمل سياسي كثيف من القوى التي يهمها القضاء على التطرف والإرهاب. كون أن هنالك الآن أفكار بالساحة لها المقدرة على هزيمة الأيديولوجيا المتطرفة فكرياً لا يكفي وحده لاقتلاعها من عقول الناس؛ فالأفكار لا تسيطر على العقول بسبب صحتها وتماسكها فقط، بل بقوة السند السياسي لها.
إنه و بدون تلك الرؤية السياسية الواضحة، وبدون الإرادة الكافية لإنفاذها، سيكون من المستحيل تحقيق الهدف، فالتعويل على عوامل التطور الباطني الذاتي في المنطقة الإسلامية حتى تصل من خلال عملية التراكم إلى إنجاز تحول كيفي يصبح بموجبه الإطار الفكري السائد نابذاً للتطرف والإرهاب، لن يقود إلا للإحباط. صحيح أنه في الظروف العادية يمكن الاستناد على ميكانزمات التطور الذاتي الطبيعي في خلق التغيير، خاصة وأن براعم الاستنارة قد أينعت هنا وهناك، وهشاشة البنية الفكرية السلفية وعجزها عن تحقيق تطلعات الناس أصبحت أوضح أكثر فأكثر؛ غير أن قوة المؤسسة الدينية وسيطرتها الطاغية على جوانب الحياة المختلفة، وتحالفها الوثيق مع أنظمة الطغيان، وفي وجود الإعلام الموجّه، والتغذية المستمرة من قبل المؤسسات التعليمية للفكر المتخلف، كل ذلك يضع كوابح تُفشل ميكانزمات التطور الطبيعي من تحقيق التغيير المنشود، وبالتالي تصبح تدخلات وضغوط القوى الخارجية أمراً حاسماً في تسريع الهزيمة الفكرية للتطرف والإرهاب.
من دواعي التشاؤم للمهتمين بأمر استئصال التطرف، أنه وحتى الآن لا تزال أطراف المجتمع الدولي عاجزة عن الاقتناع بالطبيعة الفكرية للخطر. بل إنها تتحاشى حتى إجراء الضغط السياسي اللازم، الممكن والمتاح لها، على قوى واضح أنها تدعمه، حتى تكف تلك القوى عما تقدمه للتطرف والإرهاب سراً وجهراً، والأمثلة أكثر من أن تحصى. إنه وحتى الآن لا تزال المقررات المدرسية في العالم الإسلامي تبث بذور التطرف وكراهية الآخر في عقول الناشئة. وحتى الآن لا تزال قنوات إعلامية مؤثرة، كالجزيرة مثلاً، تحيط بالتبجيل المتطرفين والإرهابيين وتقدمهم كأناس لهم قضية. لقد بلغ الدعم المعنوي والمادي للمتطرفين والإرهابيين، من قبل القوى التى نقصدها، حد أن يمارس المتطرفون والإرهابيون نشاطهم علناً في السودان لدرجة إقامتهم للصلوات على روح بن لادن في أهم ساحات الخرطوم بمشاركة نافذين في النظام الحاكم نفسه، وأن يرفعوا أعلام بن لادن والبغدادي فوق السفارة الألمانية بعد إحراقها نهاراً جهاراً، وعلى بعد خطوات من مراكز قيادة الأمن والجيش والشرطة، وفي مشاهد موثقة صوتاً وصورة، وكل ذلك بدون أن يثير أي رد فعل من المجتمع الدولي! المدهش أن يتم هذا التواطؤ والدعم من قِبَل أحد أضعف الأنظمة الموجودة الآن في العالم من الناحية السياسية والإقتصادية والعسكرية، فكيف يكون الحال مع من يفوقونه أهمية وسطوة؟!
إن أكبر دعم يمكن أن يوجه للتطرف والإرهاب، أن يتم النظر إليه وكأنه مجرد موجة احتجاجية، ناتجة عن ضغوط سياسية وإجتماعية، أو عن تعبئة سياسية خاطئة، أو عن فهم مغلوط للدين! وبالتالي يتم معالجة ذلك عبر نشر “خطاب معتدل” تتولى نشره مراكز إعلامية وخلافه، بنيّة “تصحيح” ذلك الفهم المغلوط. لا بد من الاقتناع بن التطرف والإرهاب نتاج لبنية فكرية متكاملة عميقة الجذور وله إشارات كثيفة في التاريخ القديم والمعاصر.
إن الواقع يؤكد، أنه وحتى في الأوقات التي كان يخبو فيها التطرف الإسلاموي خلال الفترة التي كانت فيه الأغلبية الساحقة من دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال الخارجي، كانت بذوره موجودة بشكل أو آخر. فأي دعوة، في رأينا، تنزع لاعتبار تطبيق تجربة الدولة العربية الإسلامية الأولى هدفاً لها، إنما تمثل دعوة للتطرف الذي سينتج الإرهاب طال الزمن أم قصر، وهو ما انطبق على الكثير من الحركات التي نشأت كرد فعل على الوجود الأجنبي، كالحركة المهدية في السودان والوهابية بالجزيرة العربية، واللتين تميزتا بالاستخدام الكثيف للعنف والترويع وغياب الحس الإنساني، وجعلتا هدفيهما الرئيسيين الحرب على الكفر وإنشاء دولة اسلامية على طريقة الدولة الاسلامية الأولى، وهو أمر كان يمكن أن يشمل حركة  الأمير عبد القادر الجزائري بالجزائر وغيرها من حركات التحرر الوطني في تلك الفترة لو توفر لها المناخ المناسب. بل أنه وحتى الحركات الوطنية التي تبنت برامج حداثوية ظاهرياً، كانت بذرة التوجه الديني السلفي كامنة بها، ووجدت صور مختلفة للتعبير عنها كالحرب الشعواء واتهامات التكفير التي واجهها الشيخ الأزهري المستنير، علي عبدالرازق، عندما أصدر كتابه “الاسلام وأصول الحكم”، تلك الحرب التي خاض فيها، بشكل سالب، رموز وطنية في قامة الزعيم المصري سعد زغلول، وذلك في الربع الأول من القرن الماضي، أو ما واجهه الأديب الشهير طه حسين من تكفير بمصر، أو ما تعرض له الشاعر التيجاني يوسف بشير بالسودان من تكفير وطرد من المعهد الديني في ثلاثينيات القرن الماضي بسبب آراء عادية لا تتسم بالشذوذ الحاد. وهكذا.
ولنكن أكثر تحديداً لبعض المطلوبات السياسية للمرحلة، فإننا نزعم بأنه لن يكون هنالك استنارة واصلاح ديني بدون إزالة هذا الحصار الاعلامي الهائل الواقع على المجتمعات الإسلامية، ذلك الإعلام المتسم بالصبغة السلفية، وإحلاله باعلام يقدم فهماً بديلاً للدين. فهماً يؤصل للتسامح بين الأديان والأعراق والثقافات، ويغرس التفكير العقلاني وقيم الحقوق داخل الثقافة العامة للمجتمعات المسلمة. ولن يكون هنالك استنارة واصلاح ديني مالم يتم اصلاح شامل للعملية التعليمية في إتجاه إرساء التفكير التحليلي النقدي، وتنقية المقررات الدينية من كل ما يدفع للغلو والتطرف والإرهاب،وما لم يتم إلغاء وصاية المؤسسات الدينية على الدولة والمجتمع والفرد وتحديد دورها كهيئات تعنى بتنظيم أمور العبادة وشرح مسائل الإعتقاد بدون تدخل في مجالات السياسة والاقتصاد والعلم الطبيعي والاجتماعي، وأن يشمل ذلك تحرير المسجد أسره وتحديد دوره ليختص فقط بالعبادة.
إن الإجراءات السياسية القوية مثل التي يقوم بها الآن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان،  يمكن أن تقدم نموذجاً لما يمكن أن توفره الإجراءات السياسية من فرص للتغيير، رغم أنها ناتجة عن ضيقه الشديد من القيود التي يضعها الفكر المتزمت والمتطرف أمام خطته للإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أكثر من أنها خطوة مدروسة تستند على رؤية استراتيجية وبرنامج إصلاح ديني شامل وتغيير فكري جذري يؤسس لمرحلة جديدة في مسيرة الإنسانية. ومثل هذه الإجراءات سبق أن نفذها الإستعمار الغربي في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، وأثبتت نجاعتها على المدى القصير، إلا أن التطرف سرعان ما استعاد مكانته، لأن البذرة كانت موجودة والتربة خصبة !.
  • تعليقات المدونة
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Item Reviewed: د. ناجي بشير خاطر يكتب: الإرهاب المتأسلم من الألف للياء ! Description: Rating: 5 Reviewed By: تنوير
Scroll to Top