الدكتور شريف يونس يسأل: هل نقد التنوير مشروع؟ - ادراك

بحث في الموقع

https://idrak4.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

الدكتور شريف يونس يسأل: هل نقد التنوير مشروع؟



شريف يونس

التنوير هو إعمال العقل واعتباره مرجعية عليا، محكمة يرجع إليها كل فكر ويمكن من حيث المبدأ (لا الواقع بالضرورة) أن يساهم فيها الجميع، ليس بطريقة رفع الأيدي الديمقراطية، لكن بالحجج والحجج المضادة. من وجهة نظر التنويريين لا يرفض التنوير إلا الظلامي الذي يريد أن يضع حدودا لعقله وعقل غيره، لمصلحة أسطورة أو ديانة أو مذهب أو تقاليد أو عادات أو قيم يعتبرها مستقرة أو أزلية أو مثالية. رفض التنوير هو إقالة الفرد لعقله، ثم محاولة إقالة عقول الآخرين. وهكذا يبدو أنه لا يوجد عاقل يستطيع أن يرفض التنوير.
ومع ذلك هناك نقد عميق للتنوير لا يمكن إغفاله. نقد هيجل الذي بلور وشارك في تأسيس المدرسة الألمانية العريقة في نقد التنوير. من أين جاء التنوير أساسا؟ ومن أين أتى الظلام السابق على التنوير؟ إذا كان التنوير بديهيا، فلماذا ظهر بالتحديد في القرن الثامن عشر؟ هل التاريخ السابق للبشر عبارة عن ظلام غير مفهوم، حدث عن طريق الخطأ حتى اكتشف التنويريون النور؟ هل كان هذا الظلام الطويل العتيق مجرد نتيجة لمؤامرات كهنة وحكام وقادة جيوش ومستغلين؟ عشرة آلاف سنة من الأخطاء (ربما يستثنى منها اليونان القديمة وعصر النهضة)؟ إجابة هيجل ثم ماركس هي أن التنوير أتى في سياق تاريخي، مبني على ما سبقه حتى وهو ينتقده. إذا لم نقبل هذا النقد سنرى العالم صراعا أبديا بين العقل والخرافة، بين النور والظلام، وكأنها طبعة ثانية من فكرة صراع الخير والشر، أو الإيمان والكفر، ويصبح مجمل تاريخ البشر تقريبا بلا معنى، ولا يتبقى من التنوير سوى تبشيريته المعلقة في فراغ معرفي وتاريخي.
هناك بالمقابل النقد بعد الحداثي، الذي لا يهمه التاريخ كثيرا، لكنه مهتم بكشف أن ثنائيات التنوير هذه قمعية بدورها، بل ربما أشد قمعية من كل "الظلاميات"، فقد ارتبطت بالاستعمار وبالقضاء على الطبقات القديمة ومالت لمحو الثقافات البشرية العديدة أو إخضاعها، وأبقت على أشكال من التمييز والاستغلال مبنية على فكرة الأعلى (الأكثر تنورا) والأدنى (الظلامي أو الأقل تنورا). كما أدرج نقد التنوير الهيجلي السابق ذكره في هذا السياق القمعي، بل ربما اعتبره أشد أنواع التنوير خبثا، لأنه يجعله قمة التاريخ وخلاصته ومعياره. طرح هذا النقد بالمقابل عالما من الحرية بلا معيار، لأن كل معيار قمعي، وخصوصا المعيار العقلي لأنه شامل لا يحده شيء. بينما المعايير الظلامية، أو الثقافية، القائمة على الخصوصية، فإنها محدودة بالمقابل مهما كانت قمعية. صحيح أن الأديان التوحيدية تدعي أيضا لنفسها صحة مطلقة، أي كونها معايير عالمية، فإنها فعليا ليست كذلك بسبب تعددها وتعدد مذاهبها.
فكرة ما بعد الحداثة أنه لا يمكن صياغة معيار شامل على أي أساس كان، لأنه من جهة قمعي، ولأنه من جهة أخرى يكشف دائما عن أن ادعائه بالشمول يحتوى على تناقضات داخلية ولا يمكن الدفاع عنه بشكل متسق للنهاية.
هذا النقد هو عودة أخرى لفكر التنوير. فهناك صراع الحرية والاستبداد، التعددية والأحادية. هناك حقيقة واحدة، هي أنه لا توجد حقيقة، وهناك مبدأ شامل وحيد هو أنه لا يمكن أن يوجد مبدأ شامل. كل تأطير خطأ معرفيا وجريمة أخلاقيا وقبح جماليا (إذا استعملنا ثلاثية المبادئ العليا: الحق والخير والجمال). يشترك هذا النقد مع التنوير الذي ينتقده في كونه لا يجد مبررا لمجمل تاريخ البشر، سوى أنه ربما خطأ نتج عن قوى "ظلامية" (تشمل التنوير الكلاسيكي ونقده التاريخي القائل بالتطور هذه المرة)، شكل جديد من المبدأ المتعالي على التاريخ يطالب بإخضاع العالم كله للمبادئ الجديدة. لكنه هذه المرة بلا وجهة، ليس لأنه قاصر عقليا، لكن لأنه يرفض بحكم مبدئه نفسه أن يحدد وجهة، سوى تفكيك ما مضى.
التنوير الكلاسيكي ونقده بعد الحداثي نخبويان بطبيعتهما وتبشيريان، بينما النقد التاريخي يقوم على طرح مبدأ الواقع (في تشابكاته العينية وتاريخيته) مقابل المبادئ المجردة، ويعيد الاعتبار من حيث المبدأ (لا الواقع بالضرورة) لكل البشر غير التنويريين.
أصل هذه الصراعات هو التنوير نفسه. كلا من النقد التاريخي وبعد الحداثي ابن للتنوير، وأسلحتهما هي الجدل العقلي، الحجج والحجج المضادة. فحتى النقد الهيجلي الذي يعيد الاعتبار للماضي ويخلصه من محاكمات التنوير الكلاسيكي، يطرحه بناء على مبدأ عقلي، حيث يحكم العقل الكلي، المبدأ التطوري، العالم. وفي كلاهما يحتفظ بالسمة الخلاصية (القول بأن الحق قد جاء بعد الباطل، وأن التحرر ممكن ووشيك)، بما في ذلك التاريخانية حين تبناها ماركس وخلصها من طابعها الهيجلي المحافظ، بالقول بأن التاريخ لم ينته بعد، لكنه سينتهي مع مقدم الشيوعية.
هذه هي العقدة التي لم تجد لها حلا بعد (أو لم أجد لها حلا في حدود قراءاتي، المحدودة بطبيعة الحال). يبدو أننا نعيش في عصر التنوير ما زلنا، عصر السعي الدائم إلى تجاوز كل ماضٍ، والثورة على الحاضر مرة وأخرى وثالثة. عصر تعاقب سريع للأحلام، ينقصف فيه كل حلم بمجرد اقترابه من التحقق، بل بمجرد أن يتبلور في حركات تحقق بعض النجاحات هنا أو هناك. في الأسطورة اليونانية كانت بنيلوبي تنقض غزلها كل صباح حتى لا ترتبط بأي من خطابها، لكن هدفها كان انتظار أوديسيوس، زوجها الذي تاه في العالم وطال غيابه. أما ما وصل إليه النقد بعد الحداثي فلا يعرف ماذا ينتظر، وهو ما يدفع بشكل متزايد لنقضه والعودة ربما لطبعة جديدة من الواقعية التاريخية.

  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك

1 التعليقات

Item Reviewed: الدكتور شريف يونس يسأل: هل نقد التنوير مشروع؟ Description: Rating: 5 Reviewed By: تنوير
Scroll to Top