الاشكال الفلسفي في كتابات هابرمس - ادراك

بحث في الموقع

https://idrak4.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

الجمعة، 5 يناير 2018

الاشكال الفلسفي في كتابات هابرمس


الدكتور محمد جلوب الفرحان    
  
نسعى هنا الى معالجة الاشكال الفلسفي في كتابات عالم الاجتماع السياسي هابرمس ،  ونحسب على اساس الفهم السابق ان جريدة مؤلفاته ومحاضراته ، تدلل على انه عالم اجتماع سياسي  . فمثلا نلحظ ان هناك  أشكالا هيمن على رؤية هابرمس ، وبالتحديد الى فاشية الفيلسوف مارتن هيدجر .
فقد ألقى هابرمس في الخمسينيات من القرن العشرين ، محاضرة عن الفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هيدجر . واحسب ان هذه المحاضرة لم تتركز على فلسفة هيدجر ، وانما جاءت تنديدا بمواقف هيدجر . وترك هذا التنديد النقدي اثره في الجو الثقافي الالماني يومذاك .
و للقارئ اقول ، حينما قرأت اصل المحاضرة باللغة الانكليزية ، وجدت مايخيب رغبتي الفلسفية . وجدت نقد هابرمس للفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هيدجر ، قد تخطى اطروحات ومناهج الفلسفة . ولم اجد  هابرمس  يقارع هيدجر حجة فلسفية بحجة فلسفية مقابلة
كان كل شغل هابرمس هو الاشتغال بمنهج التنديد ، واللوم من جرائم نظام الاشتراكية الوطنية الذي قاده هتلر ، ومجموعته التي حكمت المانيا وسببت الحروب والخراب للالمان والانسانية على حد سواء  . فمثلا ربط هابرمس بين ما أسماه “فاشية ” هيدجر وقيادة الاشتراكية الوطنية ، وذكر المواطن الالماني بان هيدجرامتدح نظام الاشتراكية الوطنية ، بل واشار الى انه كان عضوا في الحزب النازي .
من ثم رفع سؤالا أعفى نفسه منه ، وهو : ” هل ممكن اعتبار قتل الملايين ، هي قضية قابلة للفهم  ؟ ” .  أقول للقارئ بان هيدجر لم يقاتل في الجبهات الحربية مثلما فعل هابرمس . ولكن هي عقدة الذنب التي يعاني منها هابرمس وجيله الذي تربى في منظمات شباب هتلر، والتي قاتلت صفا صفا عن سياسات هتلر في الحدود الغربية . ان هذه المحاضرة في مجملها هي عبارة عن تصفية حسابات عقدة الذنب ، ومن ثم التكفير عنها ، عن طريق استهداف مارتن هيدجر .
ونحن ننظر الى هيدجر بمنظار مختلف . فقد كان فعلا نازيا ، اي عضو في حزب الاشتراكية الوطنية بزعامة هتلر . ولكن يرى المنصفون من كتاب تاريخ الفلسفة الالمانية في القرن العشرين الى ان نازية هيدجر ، هي موضوع جدل مستمر . ونحن نرى انها لا تفهم الا في ضوء فلسفته الوجودية .  فمثلا من خارج الحزب النازي ، كانوا ينظرون اليه ، والى فلسفته خصوصا ، على كونها نقدية ، ساخرة من النظام . ومن زاوية النازيون ، المشرفون على برامج التربية والتعليم ، ينظرون  الى هيدجر على انه خصم لهم . في حين يسخر بعض اخر من النازيين منه ومن فلسفته . ونحسب هذا طرف من قضية نازية هيدجر . اما الطرف الاخر ، فممكن ملاحظته ، في المقابلة التي اجرتها صحيفة ديرشبيكل الالمانية مع هيدجر قبل وفاته . و كان هيدجر واضحا وصريحا . فقال ” أنه لا توجد أمامي بدائل يومذاك . اضافة الى انني كنت اشعر بأن تغييرا سيحدث في الاشتراكية الوطنية في القريب المرتقب ” . على كل أنها محنة الفيلسوف في عصر الدكتاتوريات التي لا توفر خيارات حرة للانسان .
واخيرا اشير الى تقويم مؤرخ الفلسفة ” هانز صلوكه ” لسلوك هيدجر ، خصوصا عندما كان رئيسا للجامعة . ونشعر انه تقويم عادل . يقول هانز ” عندما كان رئيسا للجامعة منع الطلبة من وضع اعلانات معادية للسامية في مدخل الجامعة ، كما منع حرق الكتب . لكنه ظل محافظا على علاقاته الحميمة مع قيادات الطلبة النازيون ، واصدر اشارات دللت على انه متعاطف مع نشاطاتهم ” ( محمد جلوب الفرحان : مارتن هيدجر ومحنة الفلسفة الالمانية في القرن العشرين) .
يعد كتاب التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية (1962)  من مؤلفاته الاولى والذي نال شهرة ملحوظة ، وهذا الكتاب هو في الحقيقة اطروحته الثانية في العلوم السياسية . وقد كان عنوانها الكامل ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي ” ، وذلك  بعد ان ترك اطروحته الفلسفية ، وهجرمعهد البحث الاجتماعي في مدرسة فرانكفورت ، وذلك لخلاف نشب بين الاستاذين المشرفين على اطروحته كم اشرنا اليها انفا .
انتمى هابرمس الى مدرسة فرانكفورت ، واصبح مدافعا عن نظريتها النقدية ، والتي ستكون معلما متميزا من معالم مشروعه الاجتماعي السياسي . وهذه المدرسة ضمت الجيل الاول ،  وهم كل من : ( هوركهايمر ، أدورنو ، ماركوز ، واريك فروم ) . وكان هابرمس واحدا من اعضاء  الجيل الثاني لهذه المدرسة الماركسية . ولعل الفارق بين ماذهب اليه الجيل الاول وما اعلنه هابرمس ، يقوم على ان الرعيل الاول نزعوا الى    ” الاهتمام الشديد بحرية الانسان ” .
اما هابرمس فقد نزع نحو شواطئ اخرى ، ركزت ” على تحليل الفعل والبنى الاجتماعية ” . وكذلك انه دافع بقوة عن مشروع الحداثة ، وبالتحديد عن مفهومي ” العقل والاخلاق الكليين ” . وكانت حجته في الدفاع عن الحداثة تنهض على ” انها لم تفشل ، لانها لم تتجسد اصلا ” ، وذلك لان الحداثة حسب رأيه ” لم تنتهي بعد ” . ومن المفيد ان نشير الى ان هابرمس يرى ان الحداثة أخذت بمشروع التنوير ، لذلك دعا الى ” العودة الى امتيازات التنوير ، والتي تتمثل بالنظام والعقل ” (محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت) .
كذلك اشتهر هابرمس بما يسمى برائعته ” نظرية الفعل التواصلي ” والتي نشرها في العام 1981 وخلال عمله مديرا لمعهد ماكس بلانك . وهذه الرائعة تنخرط في ميدان علم الاجتماع السياسي  . أضافة الى انه ،  طبق في هذا الكتاب نظريته ” الفعل التواصلي ” في ميداني السياسة والقانون . ودافع عن ” الديمقراطية الحرة ” والتي تكون فيها المؤسسات ، والقوانين الحكومية مفتوحة للجماهير لمناقشتها .
لم تتشاغل دائرة تفكير هابرمس بالابستمولوجيا او على الاقل بنظرية المعرفة ، كمبحث فلسفي خالص . والحق انه قدم كلاما اسماه ” المصالح المعرفية ” ، وخصوصا في كتابه ” المعرفة والمصالح البشرية ” والذي صدر في العام 1968 . ولكن نجد انه استثمر فعلا في الاطار النظري لما اسماه المصالح المعرفية ، الارث الفلسفي الالماني ، وبالتحديد كانط ، شيلينج ، هيغل ، هوسرل ، ومزيج ماركسي براجماتي وكانطي جديد (محمد جلوب الفرحان : الاشكال الابستمولوجي في كتابات هابرمس) .
لم يبحث هابرمس في الاخلاق من زاوية فلسفية ( او الادق من زاوية اكسيولوجية ) . واحسب ان القارئ للاطار النظري لمشروع هابرمس في علم الاجتماع السياسي ، يلحظ ان هابرمس  اعتمد على حشد من الفلاسفة الالمان ، يتقدمهم كانط ، شيلينج ، هيجل  … ومزيج ماركسي براجماتي مع توظيف انتخابي لارث الكانطية الجديدة .  ولعل من المفيد للقارئ ان يعرف بان هابرمس بحث في الاخلاق من ناحيتين لا علاقة لهما بالفلسفة  : الاولى من زاوية اجتماعية نفسية وبتدوير سياسي . والثانية انه خصص كتاب له بعنوان ” أخلاقيات الخطاب ” . والحقيقة  ان هناك فارقا كبيرا بين المبحث الفلسفي للاخلاق ، والمعايير العملية لما يمكن ان نسميه ” بأداب الكلام او االخطاب والتصرف ” . كما تناول هذا الموضوع في كتابه الموسوم ” الوعي الاخلاقي والفعل التواصلي ” المنشور عام 1983 (محمد جلوب الفرحان : الاشكال الاكسيولوجي في الخطاب الاخلاقي عند هابرمس) .
هناك تلميحات الى المنطق في مباحث هابرمس ، واشارات الى فلسفة اللغة (والاصطلاح يشمل منطق اللغة او الخطاب) . ولكن السؤال : هل ثابر هابرمس في كتابة بحث اصيل في هذا المضمار ؟  ان الجواب ببساطة يمكن العثور عليه  في مصادر هابرمس ، فهي تؤكد على انه استثمر في الجانب النظري لفلسفة اللغة ، مباحث لودفيج فتكنشتاين ، واوستن وأخرين . كما فعل ذلك في كتابه ” براجماتيات التفاعل الاجتماعي ” الصادر في العام 1976 . وأود هنا ان اصحح عنوان الكتاب لان فيه ربطا بالبراجماتية ، وهذا غير صحيح ، والتصحيح للترجمة العربية ، بان عنوانه الصحيح ” براجماطيقات التفاعل الاجتماعي “.  وفي هذا الكتاب استثمرهابرمس نتائج ابحاث العالم المنطقي رودلوف كرناب ، خصوصا في بحث البراجماطيقا اللغوية . وهنا كان هابرمس صائبا في نظرته الى اللغة من زاوية وظيفتها الاجتماعية .الا انه في الوقت ذاته استبعد بعدين مهمين ، درسهما كرناب ، وهما السنتاكس والسيمانطيقا . ونفهم حقيقة لماذا استبعدهما ، وذلك لانهما لب علم المنطق الحديث ، وروح الفلسفة الالمانية الحديثة . وفي الوقت ذاته ، نلحظ ان هابرمس جانب كل ذلك ، وذهب يحرث في مجالات منطق من نوع مختلف ، ففي كتابه المعنون ” منطق العلوم الاجتماعية ” الصادر عام 1967 ترك ميدان الفلسفة وعلم المنطق وتوجه الى البحث في منطق البحث الاجتماعي ، وهو منطق مختلف عما هو متداول . فقد سعى الى صياغة نموذج ” اعادة بناء منطق التطوير ” ، ومن ثم تقديم توضيحات حول ” المعاني النظرية لمقترحات النظرية التطورية ” . وهذا بالتأكيد غير المنطق الذي طوى تاريخ الفلسفة بكل حقبه القديمة والوسطوية ، الحديثة والمعاصرة (محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات العامة للبحث المنطقي عند رودلوف كارناب)

اشتغل هابرمس في عمله الموسوم ” اتجاهات اعادة بناء المادية التاريخية ” ، على مراجعة طرف بالغ الاهمية من تفكير ماركس . وفي هذا العمل توصل هابرمس الى صياغة اختلافات اساسية مع ماركس . منها انه رأى ان تقويم ماركس لنشوء المجتمع الانساني ، فيه تبسيط شديد ، خصوصا عندما فسر ماركس هذا النشوء ، على انه نوع من التقدم الاقتصادي . اضافة الى ان هابرمس يعتقد ان حدود الفهم الماركسي ضيقة جدا ، حيث لا تترك مجالا للحرية الفردية . كما ورأى ان ماركس قد نظر الى التقدم على انه سير خطي ، وتحكمه جبرية . وجادل هابرمس الفهم الماركسي لعملية التعلم المفروضة في المادية التاريخية . وذهب مخالفا ماركس في ان ” عملية التعلم حيوية ، وغير قابلة للتكهن , وتختلف من عصر الى عصر أخر ” ( محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت) .
تدارس هابرمس الاطار النظري لمشروعه الساعي الى ” اعادة بناء العلوم ” . وهنا خفق قلبي وتساءلت : هل حقا بحث هابرمس في طرف من الابستمولوجيات العلمية ، وربما سأجد تقويما للابستمولوجيات الفلسفية ، خصوصا الالمانية ؟  وهو البحث المفضل عندي ، اضافة الى علم المنطق وفلسفة العلوم . ولكن الخيبة جاءت سريعة ، فالرجل ، أعني هابرمس بحث في مضمار لا علاقة بهذا المضمار الفلسفي ، وبدلا عن ذلك وجدته في مشروعه ” اعادة بناء العلوم ” ، يهدف الى وضع ” نظرية عامة للمجتمع ” مؤسسة على مقاربة بين ” الفلسفة وعلم الاجتماع ” . كما هدف الى تجسير الفجوة بين ” النظرية والعمل الميداني ” . كما عمل على ” أعادة بناء العقلانية ” ومن خلال ابنية عالم الحياة والمتمثلة في الثقافة والمجتمع والشخصية هذا طرف . ومن خلال الاستجابة الوظيفية والتي تتمثل في اعادة الانتاج الثقافي ، التكامل الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية وهذا طرف اخر ( محمد جلوب الفرحان : الاشكال الابستمولوجي في كتابات هابرمس) .
ان نزعة هابرمس البراجماتية ، ظهرت واضحة ومنذ وقت مبكر ، في مشروعه في علم الاجتماع السياسي  . ولعل الشاهد على هذه النزعة ، هو منهج التجميع بين فلسفات متنوعة وتنتمي الى مدارس مختلفة ، وتجميع بين علم الاجتماع والسياسة ، وعلم النفس والثقافة ، و التصالح بين القديم والجديد , و التصالح بين فئات المجتمع الواحد ، والتصالح بين المكونات الثقافية المتنوعة ( محمد جلوب الفرحان : الخطاب الفلسفي التربوي الغربي ، بيروت 1999 الفصل السادس والذي بعنوان “البراجماتية وأثرها في التربية ) ، والتصالح بين المهزوم والمنتصر ، والتصالح بين الملحد والمتدين .  ومن ثم جاءت البراجماتية واضحة في حواره مع بابا الفاتيكان ، والذي نشر بعنوان ” جدلية العلمانية ” والذي حمل تغييرا جذريا لمواقفه الثابتة ” من الدور العام للدين ” . والذي نشر في العام 2007 .

ونلحظ ان الكثيرمن أصدقائنا العلمانيون أندهشوا لهذا التغيير في تفكير وسلوك هابرمس . ولكن في الحقيقة ليس هناك ما يدهش ، خصوصا اذا وضعنا في الاعتبار براجماتية هابرمس ، القائمة على المصالحة . وهكذا صالح بين هابرمس القديم  في القرن العشرين مع هابرمس الراهن في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين .
  • تعليقات المدونة
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Item Reviewed: الاشكال الفلسفي في كتابات هابرمس Description: Rating: 5 Reviewed By: تنوير
Scroll to Top