الدكتور محمد جلوب
الفرحان
نسعى هنا الى معالجة
الاشكال الفلسفي في كتابات عالم الاجتماع السياسي هابرمس ، ونحسب على اساس الفهم السابق ان جريدة مؤلفاته ومحاضراته
، تدلل على انه عالم اجتماع سياسي . فمثلا
نلحظ ان هناك أشكالا هيمن على رؤية هابرمس
، وبالتحديد الى فاشية الفيلسوف مارتن هيدجر .
فقد ألقى هابرمس
في الخمسينيات من القرن العشرين ، محاضرة عن الفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هيدجر
. واحسب ان هذه المحاضرة لم تتركز على فلسفة هيدجر ، وانما جاءت تنديدا بمواقف هيدجر
. وترك هذا التنديد النقدي اثره في الجو الثقافي الالماني يومذاك .
و للقارئ اقول ،
حينما قرأت اصل المحاضرة باللغة الانكليزية ، وجدت مايخيب رغبتي الفلسفية . وجدت نقد
هابرمس للفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هيدجر ، قد تخطى اطروحات ومناهج الفلسفة .
ولم اجد هابرمس يقارع هيدجر حجة فلسفية بحجة فلسفية مقابلة
كان كل شغل هابرمس
هو الاشتغال بمنهج التنديد ، واللوم من جرائم نظام الاشتراكية الوطنية الذي قاده هتلر
، ومجموعته التي حكمت المانيا وسببت الحروب والخراب للالمان والانسانية على حد سواء . فمثلا ربط هابرمس بين ما أسماه “فاشية ” هيدجر
وقيادة الاشتراكية الوطنية ، وذكر المواطن الالماني بان هيدجرامتدح نظام الاشتراكية
الوطنية ، بل واشار الى انه كان عضوا في الحزب النازي .
من ثم رفع سؤالا
أعفى نفسه منه ، وهو : ” هل ممكن اعتبار قتل الملايين ، هي قضية قابلة للفهم ؟ ” . أقول
للقارئ بان هيدجر لم يقاتل في الجبهات الحربية مثلما فعل هابرمس . ولكن هي عقدة الذنب
التي يعاني منها هابرمس وجيله الذي تربى في منظمات شباب هتلر، والتي قاتلت صفا صفا
عن سياسات هتلر في الحدود الغربية . ان هذه المحاضرة في مجملها هي عبارة عن تصفية حسابات
عقدة الذنب ، ومن ثم التكفير عنها ، عن طريق استهداف مارتن هيدجر .
ونحن ننظر الى هيدجر
بمنظار مختلف . فقد كان فعلا نازيا ، اي عضو في حزب الاشتراكية الوطنية بزعامة هتلر
. ولكن يرى المنصفون من كتاب تاريخ الفلسفة الالمانية في القرن العشرين الى ان نازية
هيدجر ، هي موضوع جدل مستمر . ونحن نرى انها لا تفهم الا في ضوء فلسفته الوجودية
. فمثلا من خارج الحزب النازي ، كانوا ينظرون
اليه ، والى فلسفته خصوصا ، على كونها نقدية ، ساخرة من النظام . ومن زاوية النازيون
، المشرفون على برامج التربية والتعليم ، ينظرون
الى هيدجر على انه خصم لهم . في حين يسخر بعض اخر من النازيين منه ومن فلسفته
. ونحسب هذا طرف من قضية نازية هيدجر . اما الطرف الاخر ، فممكن ملاحظته ، في المقابلة
التي اجرتها صحيفة ديرشبيكل الالمانية مع هيدجر قبل وفاته . و كان هيدجر واضحا وصريحا
. فقال ” أنه لا توجد أمامي بدائل يومذاك . اضافة الى انني كنت اشعر بأن تغييرا سيحدث
في الاشتراكية الوطنية في القريب المرتقب ” . على كل أنها محنة الفيلسوف في عصر الدكتاتوريات
التي لا توفر خيارات حرة للانسان .
واخيرا اشير الى
تقويم مؤرخ الفلسفة ” هانز صلوكه ” لسلوك هيدجر ، خصوصا عندما كان رئيسا للجامعة .
ونشعر انه تقويم عادل . يقول هانز ” عندما كان رئيسا للجامعة منع الطلبة من وضع اعلانات
معادية للسامية في مدخل الجامعة ، كما منع حرق الكتب . لكنه ظل محافظا على علاقاته
الحميمة مع قيادات الطلبة النازيون ، واصدر اشارات دللت على انه متعاطف مع نشاطاتهم
” ( محمد جلوب الفرحان : مارتن هيدجر ومحنة الفلسفة الالمانية في القرن العشرين) .
يعد كتاب التحولات
البنيوية للاوضاع الاجتماعية (1962) من مؤلفاته
الاولى والذي نال شهرة ملحوظة ، وهذا الكتاب هو في الحقيقة اطروحته الثانية في العلوم
السياسية . وقد كان عنوانها الكامل ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات
ضمن أصناف المجتمع البرجوازي ” ، وذلك بعد
ان ترك اطروحته الفلسفية ، وهجرمعهد البحث الاجتماعي في مدرسة فرانكفورت ، وذلك لخلاف
نشب بين الاستاذين المشرفين على اطروحته كم اشرنا اليها انفا .
انتمى هابرمس الى
مدرسة فرانكفورت ، واصبح مدافعا عن نظريتها النقدية ، والتي ستكون معلما متميزا من
معالم مشروعه الاجتماعي السياسي . وهذه المدرسة ضمت الجيل الاول ، وهم كل من : ( هوركهايمر ، أدورنو ، ماركوز ، واريك
فروم ) . وكان هابرمس واحدا من اعضاء الجيل
الثاني لهذه المدرسة الماركسية . ولعل الفارق بين ماذهب اليه الجيل الاول وما اعلنه
هابرمس ، يقوم على ان الرعيل الاول نزعوا الى
” الاهتمام الشديد بحرية الانسان ” .
اما هابرمس فقد نزع
نحو شواطئ اخرى ، ركزت ” على تحليل الفعل والبنى الاجتماعية ” . وكذلك انه دافع بقوة
عن مشروع الحداثة ، وبالتحديد عن مفهومي ” العقل والاخلاق الكليين ” . وكانت حجته في
الدفاع عن الحداثة تنهض على ” انها لم تفشل ، لانها لم تتجسد اصلا ” ، وذلك لان الحداثة
حسب رأيه ” لم تنتهي بعد ” . ومن المفيد ان نشير الى ان هابرمس يرى ان الحداثة أخذت
بمشروع التنوير ، لذلك دعا الى ” العودة الى امتيازات التنوير ، والتي تتمثل بالنظام
والعقل ” (محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت) .
كذلك اشتهر هابرمس
بما يسمى برائعته ” نظرية الفعل التواصلي ” والتي نشرها في العام 1981 وخلال عمله مديرا
لمعهد ماكس بلانك . وهذه الرائعة تنخرط في ميدان علم الاجتماع السياسي . أضافة الى انه ، طبق في هذا الكتاب نظريته ” الفعل التواصلي ” في
ميداني السياسة والقانون . ودافع عن ” الديمقراطية الحرة ” والتي تكون فيها المؤسسات
، والقوانين الحكومية مفتوحة للجماهير لمناقشتها .
لم تتشاغل دائرة
تفكير هابرمس بالابستمولوجيا او على الاقل بنظرية المعرفة ، كمبحث فلسفي خالص . والحق
انه قدم كلاما اسماه ” المصالح المعرفية ” ، وخصوصا في كتابه ” المعرفة والمصالح البشرية
” والذي صدر في العام 1968 . ولكن نجد انه استثمر فعلا في الاطار النظري لما اسماه
المصالح المعرفية ، الارث الفلسفي الالماني ، وبالتحديد كانط ، شيلينج ، هيغل ، هوسرل
، ومزيج ماركسي براجماتي وكانطي جديد (محمد جلوب الفرحان : الاشكال الابستمولوجي في
كتابات هابرمس) .
لم يبحث هابرمس في
الاخلاق من زاوية فلسفية ( او الادق من زاوية اكسيولوجية ) . واحسب ان القارئ للاطار
النظري لمشروع هابرمس في علم الاجتماع السياسي ، يلحظ ان هابرمس اعتمد على حشد من الفلاسفة الالمان ، يتقدمهم كانط
، شيلينج ، هيجل … ومزيج ماركسي براجماتي مع
توظيف انتخابي لارث الكانطية الجديدة . ولعل
من المفيد للقارئ ان يعرف بان هابرمس بحث في الاخلاق من ناحيتين لا علاقة لهما بالفلسفة : الاولى من زاوية اجتماعية نفسية وبتدوير سياسي
. والثانية انه خصص كتاب له بعنوان ” أخلاقيات الخطاب ” . والحقيقة ان هناك فارقا كبيرا بين المبحث الفلسفي للاخلاق
، والمعايير العملية لما يمكن ان نسميه ” بأداب الكلام او االخطاب والتصرف ” . كما
تناول هذا الموضوع في كتابه الموسوم ” الوعي الاخلاقي والفعل التواصلي ” المنشور عام
1983 (محمد جلوب الفرحان : الاشكال الاكسيولوجي في الخطاب الاخلاقي عند هابرمس) .
هناك تلميحات الى
المنطق في مباحث هابرمس ، واشارات الى فلسفة اللغة (والاصطلاح يشمل منطق اللغة او الخطاب)
. ولكن السؤال : هل ثابر هابرمس في كتابة بحث اصيل في هذا المضمار ؟ ان الجواب ببساطة يمكن العثور عليه في مصادر هابرمس ، فهي تؤكد على انه استثمر في الجانب
النظري لفلسفة اللغة ، مباحث لودفيج فتكنشتاين ، واوستن وأخرين . كما فعل ذلك في كتابه
” براجماتيات التفاعل الاجتماعي ” الصادر في العام 1976 . وأود هنا ان اصحح عنوان الكتاب
لان فيه ربطا بالبراجماتية ، وهذا غير صحيح ، والتصحيح للترجمة العربية ، بان عنوانه
الصحيح ” براجماطيقات التفاعل الاجتماعي “.
وفي هذا الكتاب استثمرهابرمس نتائج ابحاث العالم المنطقي رودلوف كرناب ، خصوصا
في بحث البراجماطيقا اللغوية . وهنا كان هابرمس صائبا في نظرته الى اللغة من زاوية
وظيفتها الاجتماعية .الا انه في الوقت ذاته استبعد بعدين مهمين ، درسهما كرناب ، وهما
السنتاكس والسيمانطيقا . ونفهم حقيقة لماذا استبعدهما ، وذلك لانهما لب علم المنطق
الحديث ، وروح الفلسفة الالمانية الحديثة . وفي الوقت ذاته ، نلحظ ان هابرمس جانب كل
ذلك ، وذهب يحرث في مجالات منطق من نوع مختلف ، ففي كتابه المعنون ” منطق العلوم الاجتماعية
” الصادر عام 1967 ترك ميدان الفلسفة وعلم المنطق وتوجه الى البحث في منطق البحث الاجتماعي
، وهو منطق مختلف عما هو متداول . فقد سعى الى صياغة نموذج ” اعادة بناء منطق التطوير
” ، ومن ثم تقديم توضيحات حول ” المعاني النظرية لمقترحات النظرية التطورية ” . وهذا
بالتأكيد غير المنطق الذي طوى تاريخ الفلسفة بكل حقبه القديمة والوسطوية ، الحديثة
والمعاصرة (محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات العامة للبحث المنطقي عند رودلوف كارناب)
اشتغل هابرمس في
عمله الموسوم ” اتجاهات اعادة بناء المادية التاريخية ” ، على مراجعة طرف بالغ الاهمية
من تفكير ماركس . وفي هذا العمل توصل هابرمس الى صياغة اختلافات اساسية مع ماركس .
منها انه رأى ان تقويم ماركس لنشوء المجتمع الانساني ، فيه تبسيط شديد ، خصوصا عندما
فسر ماركس هذا النشوء ، على انه نوع من التقدم الاقتصادي . اضافة الى ان هابرمس يعتقد
ان حدود الفهم الماركسي ضيقة جدا ، حيث لا تترك مجالا للحرية الفردية . كما ورأى ان
ماركس قد نظر الى التقدم على انه سير خطي ، وتحكمه جبرية . وجادل هابرمس الفهم الماركسي
لعملية التعلم المفروضة في المادية التاريخية . وذهب مخالفا ماركس في ان ” عملية التعلم
حيوية ، وغير قابلة للتكهن , وتختلف من عصر الى عصر أخر ” ( محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات
الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت) .
تدارس هابرمس الاطار
النظري لمشروعه الساعي الى ” اعادة بناء العلوم ” . وهنا خفق قلبي وتساءلت : هل حقا
بحث هابرمس في طرف من الابستمولوجيات العلمية ، وربما سأجد تقويما للابستمولوجيات الفلسفية
، خصوصا الالمانية ؟ وهو البحث المفضل عندي
، اضافة الى علم المنطق وفلسفة العلوم . ولكن الخيبة جاءت سريعة ، فالرجل ، أعني هابرمس
بحث في مضمار لا علاقة بهذا المضمار الفلسفي ، وبدلا عن ذلك وجدته في مشروعه ” اعادة
بناء العلوم ” ، يهدف الى وضع ” نظرية عامة للمجتمع ” مؤسسة على مقاربة بين ” الفلسفة
وعلم الاجتماع ” . كما هدف الى تجسير الفجوة بين ” النظرية والعمل الميداني ” . كما
عمل على ” أعادة بناء العقلانية ” ومن خلال ابنية عالم الحياة والمتمثلة في الثقافة
والمجتمع والشخصية هذا طرف . ومن خلال الاستجابة الوظيفية والتي تتمثل في اعادة الانتاج
الثقافي ، التكامل الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية وهذا طرف اخر ( محمد جلوب الفرحان
: الاشكال الابستمولوجي في كتابات هابرمس) .
ان نزعة هابرمس البراجماتية
، ظهرت واضحة ومنذ وقت مبكر ، في مشروعه في علم الاجتماع السياسي . ولعل الشاهد على هذه النزعة ، هو منهج التجميع
بين فلسفات متنوعة وتنتمي الى مدارس مختلفة ، وتجميع بين علم الاجتماع والسياسة ، وعلم
النفس والثقافة ، و التصالح بين القديم والجديد , و التصالح بين فئات المجتمع الواحد
، والتصالح بين المكونات الثقافية المتنوعة ( محمد جلوب الفرحان : الخطاب الفلسفي التربوي
الغربي ، بيروت 1999 الفصل السادس والذي بعنوان “البراجماتية وأثرها في التربية ) ،
والتصالح بين المهزوم والمنتصر ، والتصالح بين الملحد والمتدين . ومن ثم جاءت البراجماتية واضحة في حواره مع بابا
الفاتيكان ، والذي نشر بعنوان ” جدلية العلمانية ” والذي حمل تغييرا جذريا لمواقفه
الثابتة ” من الدور العام للدين ” . والذي نشر في العام 2007 .
ونلحظ ان الكثيرمن
أصدقائنا العلمانيون أندهشوا لهذا التغيير في تفكير وسلوك هابرمس . ولكن في الحقيقة
ليس هناك ما يدهش ، خصوصا اذا وضعنا في الاعتبار براجماتية هابرمس ، القائمة على المصالحة
. وهكذا صالح بين هابرمس القديم في القرن العشرين
مع هابرمس الراهن في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين .
0 التعليقات:
إرسال تعليق