الفكر السلفي و الحرب السورية - ادراك

بحث في الموقع

https://idrak4.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

الجمعة، 25 أغسطس 2017

الفكر السلفي و الحرب السورية





غياث بلال
يوجد في سوريا اليوم عدة تنظيمات إسلامية تقاتل النظام. بعضها يعد من التنظيمات الراديكالية التي تسعى لفرض نموذجها الإيديولوجي بالقوة بالاعتماد على ما يسمونه “نموذج التمكين”؛ أي الوصول إلى السلطة ثم فرض نموذجهم في الحكم القائم على فهمهم للإسلام.
قد لا يشكل أتباع التنظيمات المتطرفة أغلبية عددية في الحالة السورية، ولكنهم يتميزون بالفعالية العالية نتيجة الاندفاع القوي الناتج عن الإيمان الراسخ بصحة ما يعتقدونه، بالإضافة للتمويل الجيد المتدفق من شبكات دعم الجهاد العالمي التي تشكلت خلال الأربعين سنة الماضية والتي استطاعت مراكمة العديد من الخبرات.
على رأس هذه التنظيمات يقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي انبثق من رحم منظمة القاعدة التي تمرد عليها ويحاربها اليوم. يستند هذا التنظيم إلى تيار السلفية الجهادية ويتميز عن غيره من التنظيمات بفعالية عالية نتيجة ضمه أغلب المقاتلين الأجانب الذين جمعوا خبرات طويلة في حروب العصابات في أفغانستان والعراق والشيشان وغيرها من ساحات الحروب في القرن الماضي. كما أنه تميز عن القاعدة بشدة تطرفه واستسهاله لقتل المدنيين مستخدما أبسط الحجج وأوهاها، مما دفع أيمن الظواهري زعيم منظمة القاعدة لاتهامهم بالتطرف في تسجيلين صوتيين له أذيعا عبر اليوتيوب في ٩ يونيو/حزيران ٢٠١٣ وفي ٨ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٣وطالب بحلها بعد أن برأ نفسه وتنظيمه من أفعالها.
ينطلق قادة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (اختصارا داعش) من تصور إيديولوجي يقتضي بأنهم يقيمون دولة الإسلام في الأرض مستخدمين في ذلك أدوات ومسميات الحكم التي سادت قبل أكثر من ١٠٠٠ عام، وبشكل خاص فيما يتعلق بقانون العقوبات. ولكنهم رغم ذلك يعتمدون في ممارساتهم الفهم الحديث لمعنى الدولة القومية، المنبثق عن النموذج الحداثي للدولة من حيث تدخلها وتحكمها في أغلب المناحي الحياتية للأفراد، مما أدى بالضرورة إلى إنتاج نموذج حكم ديني ديكتاتوري متعسف في كل الأماكن التي استطاعوا السيطرة عليها.
ولعل من أسوء ما أنتجته ممارسات هذا التنظيم هو تحويل الاختلاف والخلاف في الشأن السياسي إلى اختلاف عقائدي وديني ينتج عنه تكفير الآخر المختلف معه سياسيا وبالتالي إباحة دمه واستحلال قتله. نتيجة هذا الفهم المنحرف للدين قام هذا التنظيم بقتل العديد من قادة التنظيمات الإسلامية الأخرى القريبة والبعيدة عنهم، بعد أن أعلن كفرهم وخروجهم من الملة نتيجة اختلافه السياسي معهم. أدت هذه السلوكيات إلى نشوب معارك عنيفة بين هذا التنظيم وباقي التشكيلات العسكرية المعارضة في سوريا. بدأت هذه المعارك منذ بداية عام ٢٠١٤ وأدت إلى انحسار وجود هذا التنظيم في أغلب المناطق السورية وخروجه منها. أسفرت هذه المعارك عن مقتل أكثر من ٣ آلاف شخص من كل الأطراف وساهمت في خلق الفرص للنظام السوري لإعادة السيطرة على بعض المناطق التي كان قد أضطر للانسحاب منها في وقت سابق.
وبالتالي فقد أظهرت التجربة أن تيار السلفية الجهادية العالمية، رغم أنه وجَدَ في الحالة السورية إمكانيات التوسع، إلا أنه يعيش اليوم أزمة بنيوية نتيجة ظهور إحتقاناته وخلافاته الداخلية الأكثر جذرية ودموية. حيث أن حالة الطهورية الناجمة عن الاستعلاء والتمييز بين من يسمونهم بالعوام ويقصد بها عموم الناس وأصحاب المنهج من أتباع المدرسة السلفية الجهادية قد ضاقت جدا حتى حوّل هذا التمييز أصحاب البارحة إلى أعداء اليوم.
السلفية في سوريا قبل الثورة
يعد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة السلفية الحديثة، التي أخذت عنها السلفيات المعاصرة في المشرق العربي والعالم الإسلامي؛ ووجد سنده السياسي عندما قرر محمد بن سعود، وهو أحد الأمراء في نجد وحاكم الدرعية في سنة 1744م، أن يساند حركة عبد الوهاب الدينية، التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب.
تعتقد المدرسة السلفية بالإجمال بضرورة العودة إلى التجارب الإسلامية السابقة في العهود الذهبية وخاصة عهد الرسول محمد والصحابة وإعادة إنتاجها، وبالتالي فإنها تنحو في أغلب الأحيان لرفض الجديد الذي لا يحمل جذورا تعود به إلى العصور الذهبية للإسلام. يمكن مقارنتها بالكثير بالتيارات الفكرية الإنجيلية في أوروبا وأمريكا، من حيث إيمانها بظاهر النص وإيمانها بأصول ثابته للدين لا يمكن الخروج عنها (يقابلها المكفرات العشرة لمحمد بن عبد الوهاب).
كما أن الاستفادة من التجارب الإسلامية القديمة ومنهجية إعادة إنتاجها، وكذلك منهجية رفض المنتجات الوافدة الغريبة تختلف داخل المدرسة السلفية نفسها. حيث يمكن لنا التمييز بين اتجاهيين رئيسيين:
السلفية العلمية (التقليدية): وهي تمثل امتداد للسلفية التقليدية التي انتشرت في الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب. لذلك يسميها بعض الباحثين أيضا بالسلفية النجدية. تستند في فكرها على التفسير الحرفي والظاهري للنص الديني من دون أخذ السياق التاريخي بعين الاعتبار، الامر الذي يؤدي إلى نتائج وفتاوى منفصلة تماماً عن الواقع مثل الفتوى الاخيرة لمفتي السعودية "عبد العزيز آل الشيخ" بتحريم لعبة الشطرنج التي صدرت بداية هذا العام، أو فتاوى تحريم قيادة المرأة للسيارة أو محاربة الكثير من منتجات الحداثة بدعوى أنها بدعة. أي أنها لم تكن تكن في زمن العصر الذهبي للإسلام. أما في الجانب السياسي فيتم عادة استعمال هذا الفكر الديني من قبل السلطة كأحد أدوات تثبيت وتدعيم السلطة كما نشاهد ذلك في المملكة العربية السعودية بوضوح. حيث تعد معارضة الحاكم ليست فعل سياسي مسموح وإنما مخالفة دينية تستوجب العقاب في الدنيا والآخرة.
أما في سوريا فقد اتخذ التيار السلفي موقف المعارض سياسيا والتوجه الاصلاحي دينياً منذ أواخر القرن التاسع عشر. من أشهر أعلامها في سوريا كان الشيخ عبد القادر أرناؤوط الذي توفي في دمشق في عام ٢٠٠٤ وكذلك الدكتور مأمون حموش الذي قاد التيار السلفي في دمشق بعد ذلك. أما الشيخ ناصر الألباني فقد كان الأب الروحي لهذه المدرسة ومحدث المنهج ليس فقط في سوريا بل في كل العالم العربي، إلا أنه منع من دخول سوريا منذ عام ١٩٨٠ وتوفي في الأردن في عام ١٩٩٩.
عانى رواد هذه المدرسة من الاعتقال والتضييق الشديد قبل اندلاع الثورة في سوريا. كما تمت محاربتهم فكريا بشكل منهجي بواسطة التيار الديني الصوفي المحسوب على السلطة. فقام الدكتور سعيد رمضان البوطي المعروف بتوجهه الصوفي وبقربه من نظام الاسد بتأليف عدة كتب لتفنيد طروحاتهم. مما أدى من حيث النتيجة إلى انحسار الوجود المنظم والعلني لأتباع هذه المدرسة. حيث تحولت معظم تجمعاتهم إلى السرّية وغلب عليها الطابع الأهلي المحلي أو العائلي.
تعد اليوم المملكة العربية السعودية الراعي الأول لهذه المدرسة التي تحرم الخروج على الحاكم في الأصل وترفض الثورات، مما يفسر تأخر أتباعها عن الالتحاق بركب الثورة في سوريا في بداياتها. يمكن التعرف على أقطابها خارج سوريا من خلال مواقفهم، كما يحدث في مصر، حيث يعد حزب النور في مصر أحد الامثلة الواضحة لهذا التيار حيث يدعمون انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على الرئيس الاخواني المنتخب محمد مرسي لأنه، حسب منهجهم الفكري، وليّ الامر المتغلب وبالتالي على المسلمين طاعته.
العديد من الكتائب في سوريا تنتمي لهذه المدرسة، حيث يعد جيش الاسلام الذي أسسه زهران علوش -الذي قضى بصاروخ روسي- أحد أهم رموز هذا التوجه في سوريا. وليس سرا أن معظم دعمه السياسي والعسكري يأتي من المملكة العربية والسعودية.
خضعت المدرسة السلفية العلمية أيضا لتحولات عميقة جدا في السنوات الخمسة الاخيرة. حيث انتقلت من تشكيلات اجتماعية تقليدية إلى تشكيلات سياسية حديثة عن طريق تكوين أحزاب سياسية كحزب النور في مصر.
السلفية الجهادية: تؤمن هذه المدرسة بالجهاد والحرب على الغرب وعلى الكفر كطريق رئيسي للحصول على "الشوكة" أو "التمكين" من أجل بناء الدولة المسلمة. يعد تنظيم القاعدة المرجعية الأساسية لهذه المدرسة. تتميز هذه المدرسة ببساطة ووضوح الرسالة، وكذلك ببساطة ووضوح تعريف الإسلام وتعريف الكفر، مما يجعل أفكار هذه المدرسة سهلة الوصول والقبول للأشخاص المقبلين على التدين حديثا. يعد تنظيم القاعدة برموزه المعروفة هو الأب الروحي عموما لهذا التوجه. ويعد تنظيم "داعش" هو المثال الأشهر لهذا المنهج في الحالة السورية.
قام النظام السوري في أحد المراحل بتشجيع هذا التيار، حيث وظف بعض قياداته في الـ ٢٠٠٤ مثل الشيخ أبو القعقاع إمام جامع الايمان في حلب (محمود غول اغاسي)، حيث قام هذا الاخير بالدعوة لتجنيد الشباب لإرسالهم إلى العراق لقتال الأمريكيين هناك. لا يكمن الإشكال الذي تشكله "جبهة النصرة" أو "داعش" والمجموعات التي تحمل فكراً مشابهاً في فهمهم الخاص لكيفية بناء وإنشاء الدولة الإسلامية، وإنما يكمن في المنهج الذي يعتمد على فرض هذا الفهم بقوة السلاح. حيث تعد هذه التنظيمات اللجوء إلى صناديق الاقتراع وإرادة الشعب، واتباع العملية الديمقراطية كفراً واحتكاما لغير شرع الله وبالتالي هي تكفر كل من يتبنى هذا النهج ويدعو إليه.
يمكننا اليوم الحديث عن تيار ثالث انشق عن السلفية الجهادية بعد تجربة الجهاد في أفغانستان والعراق ويبدو أنه بدأ يتميز عنها بشكل واضح على الصعيد الخطاب والفكر. يميل بعض الباحثين العرب لإلحاق هذا التيار الناشئ بالمدرسة التي تأسست على أفكار سيد قطب (مصري) وعلى يد الشيخ سرور زين العابدين (سوري) في السعودية في الثمانينيات والتي تدعى السلفية الحركية، أي أنها تسعى للانخراط في التنافس السياسي من خلال أدواته المعروفة. يذكر أن الشيخ سرور توفي في شهر تشرين الثاني من العام ٢٠١٦.
ولكن نحن اليوم نتحدث عن تيار جديد ناشئ كنتيجة لانفصال عناصر جهادية عن الفكر الجهادي وابتعادها عنه لتأسس لتيار جديد ينقد تجربة القاعدة ويبتعد عنها. وإن كان هناك تقاطعات ما بين هذا التيار وبين فكر الشيخ سرور ومدرسته، إلا أن ذلك التقاطع لا ينفي عن التيار الناشئ أصالته وحداثته.
لا زال من المبكر الحكم على مآلات التيار الجهادي الجديد. ولكن من المؤكد أنه يشكل العدو الاول للتنظيمات الجهادية المعروفة (داعش والنصرة)، لأنه ينافسها ليس فقط على موارد وأشخاص التيار الجهادي، بل ينافسها أيضا على شرعية الوجود.
فسردية أحرار الشام تختلف اليوم بشكل كبير عن سردية القاعدة وداعش وتحمل رسالة واضحة بإن القاعدة وداعش لم تأتي إلا بالخراب والدمار لكل الدول التي حلت فيها وعلينا الآن ألا نعيد تجربة نموذج أثبت فشله عدة مرات فيما مضى.
قد نختلف كثيرا أو قليلا مع حركة احرار الشام ولكن لا بد من الاعتراف بانها تبقى كصمام أمان قادر على استقطاب اصحاب التوجه السلفي، اللذين كانوا سيتوجهون إلى داعش أو النصرة في حال عدم وجود هذه الحركة التي شكلت بالنسبة لهم بديل مناسب ومقبول.
تنظيم داعش وجبهة النصرة
خسرت جبهة النصرة حربها ضد تنظيم داعش، التي امتدت بين شهري شباط إلى حزيران ٢٠١٤، حيث استطاع تنظيم داعش طرد تنظيم النصرة من مناطق سيطرته في دير الزور التي تشكل له أحد أهم موارده المالية والبشرية. عقب ذلك حملة تصفيات كبيرة طالت القبائل التي تحالفت مع النصرة.
كما أن هذه الخسارة أدت إلى انسحاب ابو ماريا القحطاني (العراقي) الذي يمثل الوجه الاقل تشددا لدى النصرة إلى درعا وعزله من منصب الشرعي العام للنصرة وتعيين العريدي الاردني بدل عنه. فالعريدي معروف بتوجهه الاقرب لتنظيم داعش وبتشدده تجاه كل من يخالف المنهج السلفي الجهادي. كما أن مشايخه وأساتذته أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني كان لهم دور كبير في إبعاد النصرة عن الفصائل السورية الاخرى من خلال فتاويهم المتشددة والتي تكفر كل من يخالفهم.
أي أن خسارة الحرب مع تنظيم داعش انتهت أيضا بحسم الصراع الداخلي داخل النصرة لصالح التيار المتشدد والأقرب لتنظيم داعش في الفكر والممارسة. انعكست هذه الصراعات على تصريحات الجولاني في كافة مقابلاته التي تلت ذلك في أيار ٢٠١٥ وكذلك في كانون أول ٢٠١٥.
ولا بد من الاشارة إلى أن استهداف التحالف الدولي لتشكيلات وعناصر تنظيم النصرة أدى إلى دفعه بالاتجاه الأكثر ردايكالية في التعامل مع باقي فصائل الثورة السورية وخاصة تلك التي كانت تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة الامريكية.
فبعد بدأ قوات التحالف بقصف مقراته قام تنظيم النصرة بمهاجمة جميع فرق الجيش الحر في الشمال التي تتعاون مع قوات التحالف أو تتلقى تمويلا أو دعما امريكيا مثل: جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف وحركة حزم.
تنظيم داعش وتنظيم النصرة يتشاركان نفس السردية (تعريفهم لذاتهم وتعريفهم لدورهم وماذا يريدون وكيف)، فهم ينتمون للتيار السلفي الجهادي الذي يؤمن بالجهاد كطريق وحيد من أجل الوصول إلى دولة اسلامية تقيم شرع الله وفق فهمهم له. لكنهم يختلفون بالتفاصيل (حول الزمان وأحيانا الكيفية، أي اختلاف ترتيب أولويات). تنظيم الدولة يعتمد التفسير الظاهري والحرفي للنص ويستند إلى مفهوم الغلبة بشكل مطلق، كما أنه يستعجل تطبيق مشروعه، في حين ترى جبهة النصرة ضرورة التريث كنتيجة لامتلاكها ترتيبا مختلفا للأولويات، تسعى للتفاهم مع الآخرين حيث أمكن وتلجأ للسياسة والتفاهمات حيث تستطيع، وهو الأمر الذي انتهى بهما كجماعتين متمايزتين، بل ومتحاربتين أحيانا وإن توافق تعريفهما نفسيهما بجماعة واحدة اتفقت في الغاية.
يتنافسون على نفس الموارد (أموال وأشخاص ومنظري التيار السلفي الجهادي). التنافس يدفعهم للتقاتل في بعض المواقع: (حقول النفط والمواقع الاستراتيجية في دير الزور والشمال السوري) والتقارب وشعورهم بالخطر المشترك في المناطق التي يشكلون فيها قلة قليلة حيث لا يوجد ما يستدعي التنافس بينهم يدفعهم للتعاون (الريف والجنوب الدمشقي). لن نتطرق هنا لأسباب انقسامهم في تنظيمين فهذا يحتاج إلى مقال منفصل. ولكن باختصار فإن النصرة أغلبه سوريون وأغلب شرعييه أردنيون وله توجه يختلف قليلا عن داعش الذي أغلب قياداته عراقية وأغلب شرعييه من الخليج.
إن اتفاق تنظيم الدولة وجبهة النصرة بالسردية الرئيسية أدى إلى سهولة التنقل للأفراد بينهما رغم اشتداد التوترات والاقتتال الواقع فيما بينهم أحيانا، في حين من الصعب تصور انتقال أفرادهما للانضمام إلى جماعة ذات تعريف مختلف لذاتها. أما العناصر الاكثر قدرة على التعلم والاكثر انفتاحا والتي ترى ضرورة اعادة النظر في كل الفكر الجهادي فقد انتقلت لحركة احرار الشام.
طبعا داعش والنصرة اليوم هم منظمات مصنفة في اغلب دول العالم على انها منظمات ارهابية ذات رؤيا عالمية تستعمل العنف لفرض ايديولوجياتها أو تحقيق غاياتها السياسية. ولكن من المؤكد أيضا ان هذين التنظيمين اليوم ليسا هما تنظيم القاعدة التي قامت بتفجيرات 11 سبتمبر 2001. فبعد 11 سبتمبر ضعفت السيطرة المركزية للقاعدة على فروعها المختلف نتيجة ظهور جيل جديد من القيادات. وكنتيجة للعولمة وتأثيرها في سرعة نقل الخبر والفكرة.
من حيث النتيجة تحولت القاعدة اليوم إلى رسالة ملهمة أكثر منها كتنظيم. أما فكرها الجهادي السلفي فقد خضع ايضا للعديد من التحولات في اتجاهات متباينة تماما. ففي حين اتجه تنظيم داعش نحو فكر راديكالي موغل في الوحشية لدرجة أن الظواهري نفسه زعيم تنظيم القاعدة وصفه بالتطرف، ظهر تيار جديد أعاد النظر بالتجربة الجهادية ككل بعين ناقدة وبات ينتج ممارسات تقترب في جوهرها من ممارسات حركات الاسلام السياسي المعروفة مثل الاخوان المسلمين. كما انه لازال هناك تنظيمات محلية أهمها تنظيم جبهة النصرة تؤمن بفكر القاعدة وتسعى للحفاظ عليه كما أسسه ابن لادن في افغانستان.

هناك نوعان من السلفية التي ألفنا وجودها وعرفنا افكارها منذ بدايات القرن الماضي، ولكن الحرب السورية انتجت فكراً سلفياً ناشئً يسعى لأن يبتعد عن السلفية الكلاسيكية التي نعرفها.
يتميز التيار السلفي الجديد باعتماده التوجه السلفي كفكر، إلا أنه يؤمن بالعمل السياسي كأحد الوسائل للتنافس على السلطة. أشهر رموزه ومؤسسيه اليوم هم قادة حركة أحرار الشام. حيث استطاعوا إجراء مراجعات عميقة وجريئة للفكر السلفي الجهادي، مكنهم من لعب دور توفيقي بين الجماعات العسكرية السلفية والأخرى ذات التوجهات المخالفة.
من الضروري الإشارة إلى الفرق بين السلفية الجهادية وبين التنظيمات الإسلامية التي تتبنى نظرية فرض الإسلام على المجتمع بقوة الدولة مثل حزب التحرير: حيث يشترك كلاهما بمفهوم ضرورة إيجاد الدولة الإسلامية من أجل إكمال أسلمة المجتمع ونشر الدين. فحزب التحرير على سبيل المثال وأمثاله من الجماعات السياسية الاسلامية هي في الأصل حركات سياسية تستخدم أدوات العمل الحزبي والسياسي وتعتمد الإسلام كمرجعية لها وفق الفهم الذي اختارته لنفسها، أما السلفية الجهادية فهي في الاصل نشأت كحركات دينية وليست سياسية ولكن طريقة فهمها للنص الإسلامي دفعتها لاقتحام العمل السياسي من خلال سعيها لتشييد نظام حكم محدد.
تطور السلفية الجهادية في الحالة السورية
منذ ظهور التيار السلفي الجهادي المنظم في هيئة القاعدة لم يكن هناك من ينازع أسامة بن لادن على زعامة هذا التيار ولم نشهد تضارب في الفتاوي أو الخطاب داخل هذا التيار. ومن أهم خصائص هذا التيار التي أعطته فرادته وميزته عما سواه من تيارات سلفية أخرى معاصرة:
1)  العدمية السياسية: ظهرت السلفية الجهادية كنوع من التمرد على واقع الدولة المستبدة والفاقدة للسيادة، المستسلمة للإرادات الخارجية والمتنمرة على مواطنيها، فكانت الاوتوبيا التي يطمح إليها هي النموذج التاريخي الذي حكم الممالك الاسلامية في عصورها الذهبية. كما أن استحالت تحقيق الاوتوبيا المتخيلة في الزمن الحديث جعل الجهاد كوسيلة لمحاربة الاعداء غاية في حد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق غاية سياسية ممكنة. مما جعل خطابه السياسي يتصف بالعدمية في سياق العصر الحديث القائم على الدول القومية.
2)  الاستعلاء والتكبر على الحواضن الاجتماعية والتيارات الاسلامية الاخرى: لا تختلف السلفية الجهادية عن غيرها من المدارس السلفية في تبنيها لنظرية فرض الإسلام على المجتمع بقوة الدولة، حيث تعتقد السلفية على العموم بضرورة إيجاد الدولة الإسلامية من أجل إكمال أسلمة المجتمع ونشر الدين الإسلامي. إلا أن السلفية الجهادية هي حركة دينية وليست سياسية في الاصل، ولكن طريقة فهمها للنص الإسلامي دفعتها لاقتحام العمل السياسي من خلال سعيها لتشييد نظام حكم محدد. وبالتالي فهي ترى أن من يشاركها هذا الفهم فهؤلاء هم "أخوة المنهج" ويمكن التعامل معهم. وباقي الناس ينقسمون ما بين "عوام" وهم عموم الشعب الذي يجب أن يخضع لحكمهم وينفذ الاوامر بدون نقاش، أو "المرتدين" وهم جميع من خالفهم من المسلمين، أو "الكفار" وهم جميع من تبقى في العالم من غير المسلمين. الامر الذي جعلهم نخبة فوق البشر وفوق المجتمعات التي يقيمون بينها. والأمر الذي حول الخلافات السياسية بينهم أنفسهم إلا خلافات دينية انتهت باتهامهم لبعض بالردة والكفر وحملهم السلاح ضد بعضهم كما شاهدنا في حالة تنظيم داعش وجبهة النصرة.
3)   فقدان المكون الإنساني: النظرة الاستعلائية، التي ذكرناها، بالإضافة إلى التقيد الصارم بظاهر النص الديني أنتجت مجموعات من البشر فاقدة للرحمة وللحس الإنساني بالمجمل. حيث يتم التعامل مع كل من يتم تصنيفه على أنه ليس من أخوة المنهج على أنه ليس إنسان. بل هو كائن أو شيء يخضع للأحكام والقوانين التي يمليها عليهم المنهج ويستنبطونها من النص الديني. الشواهد هنا أكثر من أن يتم تعدادها: مثل قطع رؤوس الاسرى، المجازر الجماعية في القبائل المهزومة (الشعيطات كمثال)، أو استرقاق النساء الإيزيديات كل هذه أمثلة للسلوكيات الناتجة عن فقدان المكون الإنساني.
يمكن الجزم بإن هذه الخصائص الثلاثة يمكن تتبعها في كافة الحركات السلفية الجهادية عبر العالم بلا استثناء حتى عام ٢٠١٢. إلا أن التجربة السورية سمحت بظهور تيار سلفي جهادي جديد أخذ يتمايز عن السابق في هذه النقاط الثلاثة. ويمكن أخذ حركة أحرار الشام كأفضل مثال لهذا التيار بل كمؤسس عملي له. حيث قام قادة هذه الحركة بإجراء مراجعات علنية للفكر السلفي الجهادي، ثم أطلقوا عدة تصريحات تعبر عن التراجع عن الفكر الجهادي، آخرها كان الاعتذار الصريح للمفكر الرئيسي لحركة أحرار الشام أبو يزن الشامي عن كافة الممارسات المستندة للفكر الجهادي وتوبته منه وتوبة حركته أيضا من هذا الفكر المدمر. حيث قال قبل موته بأيام قليلة: “نعم أنا كنت سلفيًا جهاديًا وحبست على هذه التهمة في سجون النظام، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه وأعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنىً عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يومًا، لأني عندما خرجت من السجن الفكري الذي كنت فيه واختلطت بكم وبقلوبكم قلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، عندما قال “إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم”؛ أعتذر منكم، وإن شاء الله قابل الأيام خيرٌ من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا”.
تجدر الإشارة إلى اغتيال كافة قادة احرار الشام بعملية غامضة في ٩ أيلول ٢٠١٤. مما أدى إلى اضعاف هذه الحركة بشكل كبير، إلا أن الحركة ما لبثت ان استعادت عافيتها من جديد. وتابعت المسير في الاتجاه الاصلاحي الذي بدأه القادة المؤسسون قبل اغتيالهم. فقد كان شعار احرار الشام حتى شهر آذار 2015 هو "مشروع أمة" وهو الشعار الذي ُوضع في ميثاق الجبهة الاسلامية التي تأسست في نوفمبر 2013 كي تضم الفصائل الاسلامية المقاتلة لنظام الاسد في سوريا. وهذا الشعار يعبر عن أن مشروعها هو بناء دولة اسلامية لكافة المسلمين. ولكن منذ إعلان الاندماج مع مجموعة صقور الشام (2015/3/22م)، والتي تتبنى أيضا الفكر الجديد المنبثق عن هذه المراجعات، تم الانتقال إلى شعار "ثورة شعب"؛ وهو الشعار الذي أصبح يوضع في إعلام الحركة وبياناتها. حيث يعبر هذا الشعار عن أن الثورة السورية هي ملك للشعب السوري ككل وليست ثورة اسلامية حكرا على مجموعة من الشعب السوري.
ويعد هذا التغيير نقلة كبيرة في خطاب وسياسات مجموعات كانت تعرف نفسها على أنها مجموعات جهادية. الامر الذي أدى لتعرضهم للتشكيك والهجوم من المنظرين التقليديين للتيار الجهادي مثل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني. ثم في ٢٤ آب ٢٠١٥ أصدرت الحركة عدة قرارات ووثائق أكدت على "سوريّة" الحركة من حيث العناصر والمشروع ونفي أي علاقة تنظيمية تربطها بالنصرة.
ومن ضمن هذه القرارات كان قرار عزل العديد من القادة المحسوبين على التيار المتشدد مثل القاضي (أبو شعيب المصري) الذي انتقد مقالات عضو المكتب السياسي للحركة ورئيس قسم العلاقات الخارجية "لبيب النحاس"؛ الذي ظهر على الساحة في ٢٠١٥ من خلال قيامه بشرح قضيته باللغة الانكليزية في صحيفة نيويورك تايمز وفي الديلي تلغراف مخاطبا الرأي العام الغربي وصناع القرار في الغرب.
ويعتقد المراقبون أن في ذلك إشارة لبراغماتية ناشئة عند الحركة من حيث قبولها وقدرتها على تعلم أدوات وقواعد اللعبة السياسية في العصر الحديث بدل تبني خطاب تكفير الغرب ومحاربته والانقلاب على كامل منجزات الحداثة. وكذلك فأنهم أرسلوا ممثل لهم لمؤتمر الرياض في ٩ و١٠ ديسمبر ٢٠١٥ ولم يرفضوا مؤتمر جينيف قبل ذلك. فرغم أنهم حركة جهادية تسعى للانتصار على الاسد بالمقاومة المسلحة، إلا أنه يبدو أنهم أصبحوا يؤمنون بضرورة التفاوض السياسي من أجل التوصل لحلول سياسية تشاركية تحقن الدماء.
أما على المستوى الداخلي فسعت الحركة لتسليم الادارات المحلية لمن تثق بهم من المدنيين ولم تسعى لمباشرة الحكم المحلي بنفسها كما فعلت جبهة النصرة أو داعش على سبيل المثال.
طبعا لا زال هذا التوجه الفكري والايديولوجي في بداياته رغم اتضاح بعض معالمه وتمايزه عن التيار الجهادي الذي نعرفه. لذلك لا داعي للتوضيح بإن هذا التوجه ليس محل اجماع لدى كافة قادة واعضاء الحركة حيث هناك انقسامات واختلافات داخل الحركة لدى كل قضية مفصلية مثل مؤتمر الرياض أو جينيف من قبله أو طريقة التعامل مع داعش أو مفاوضة النظام. يعتقد بعض المراقبين الخارجيين أن هذه التصريحات المتضاربة هي ليست أكثر من تبادل للأدوار في تمثيلية مفضوحة بين قادة الحركة. لكن مقابلات صحفية اجراها الكاتب مع بعض قادة الحركة أكدت أنه ليس هناك أي تمثيلية أو تبادل للأدوار وإنما خلافات قد تصل أحيانا لدرجات عالية من التوتر بين تيار منفتح يسعى للتأقلم مع العالم والعصر الحديث ويرفض الدخول في عداء شامل مع العالم على أسس عقدية ودينية، وبين تيار أكثر تشددا يسعى للحفاظ على ما يسميه ثوابت العمل الجهادي.
وفي خضم هذا الصراع يسعى منظّروا التيار السلفي مثل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني (كلاهما من أصل فلسطيني ويقيمان في الاردن) لتكفير التيار المنفتح كما شاهدنا في تعليقاتهم على نتائج مؤتمر الرياض. رغم ذلك تتمتع الحركة ببنية مؤسسية جيدة ساعدتها على تجاوز كارثة اغتيال قيادات الصف الاول والثاني في ٩ أيلول ٢٠١٤ دون أن تؤدي إلى تفكك الحركة، كما حصل مثلاً للواء التوحيد بعد وفاة قائده عبد القادر صالح، وتساعدها كذلك على تجاوز الخلافات دون حدوث انشقاقات كبيرة حتى الآن داخل صفوفها.
وفي النهاية يمكننا التلخيص بإن تجربة التيار الجهادي في سوريا فرضت على قادته السوريون مراجعات عميقة كان نتاجها تيار سلفي غير عدمي يسعى لصناعة نموذج متصالح مع مجتمعه ويسعى لحمل مشروع وطني.
المصدر المجلة
  • تعليقات المدونة
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Item Reviewed: الفكر السلفي و الحرب السورية Description: Rating: 5 Reviewed By: تنوير
Scroll to Top